مقص “زيادة” في بطن المريض!


محامي محمد صدقي الغرايبة

طالعنا على صفحات المواقع الإخبارية خبرا بتعلق بنسيان ملقط داخل بطن مريض …

نسيان ملقط أو مقص داخل بطن مريض في مستشفى حكومي ليس مجرد خطأ طبي، بل هو إعلان رسمي عن موت أبجديات المهنية وسقوط أبسط بروتوكولات السلامة.

أتذكّر أنّني حضرت مرة مشهداً في كراج إحدى الدوائر الحكومية. كان الميكانيكي يعيد تركيب أجزاء المركبة، وحين انتهى بقيت في يده أكثر من عشرة براغي وصواميل. سألته: “ليش ما ركبتهم؟”
فأجاب بثقة العارف: “هذول زيادة… ما إلهم داعي.”
وبقدرة قادر، أصبح الرجل أفقه من الشركة الصانعة، وقرّر أنّ هذه البراغي مجرد كماليات!

حسناً… في عالم الميكانيك، قد يمرّ الأمر “جدلاً” — رغم أنّ حياة ركّاب المركبة مرتبطة بصحة صيانتها — ولكن فلنفترض أنّ الموضوع قابل للتغاضي.

لكن في غرف العمليات؟!
في المكان الذي يُفترض أن يُدار فيه الوقت بالدقة الجراحية، وتُعدّ الأدوات قبل العملية وبعدها كما تُعدّ الأرواح يوم الحساب، يظهر من ينسى مقصّاً داخل بطن مريض وكأن الأمر قطعة غيار “زيادة”.

المعروف طبياً أن هناك بروتوكولاً صارماً لعدّ الأدوات قبل الاستخدام وبعده، وأن نسبة الخطأ يجب أن تكون صفراً لا تحتمل النقاش. لأن الخطأ هنا لا يعني فقدان برغي… بل فقدان ثقة، وأحياناً فقدان حياة.

فهل يُعقل أن يقال بعد ذلك إن الطبيب وطاقم العمليات بذلوا عناية الرجل الحريص وأدّوا واجبهم المهني على أكمل وجه؟!
أي حرص هذا الذي يسمح بترك أداة حادّة داخل جسد إنسان؟
وأي مهنية تلك التي لا تفرّق بين أحشاء بشرية وبين درج عدّة ميكانيكي؟

ومع ذلك، يبقى للإنصاف جانب مشرق:
على الأقل… لم يتركوا أعضاء المريض خارج بطنه بحجة أنها “زيادة” ولا داعي لها — كما فعل ميكانيكي السيارة الذي قرّر أن البراغي لا تُؤثّر على شيء!

إنّ هذه الحادثة ليست “خطأ فردياً”، بل صفعة توقظنا من سبات الثقة العمياء، وتذكير بأن حياة الناس ليست مجالاً للتجارب، وأن المستشفيات ليست ورش صيانة يُمكن فيها الاستغناء عن “قطعة أو قطعتين”.
الطبّ مهنة قَسَم، لا مهنة “زيادة”، ولعلّ المقص المنسي يذكّرنا بأنّ الإصلاح الحقيقي يبدأ قبل غرفة العمليات… يبدأ من صيانة الضمير

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.