ملحمة بيت جن .. كيف قلبت قواعد اللعبة السياسية وأعادت تشكيل المعادلة العسكرية ؟

مهدي مبارك عبدالله
لم يكن فجر بلدة بيت جن في ريف دمشق جنوب سوريا يوم الجمعة الماضي 28 / 11 / 2025 عاديًا حينما انبثق من بين صمت الجبال صوت مدوي يرفض الخضوع وصدى مزلزل يعلن أن الأرض لن تصمت او ترضخ حيث كان أهلها على موعد مع بطولة فريدة اختصرت تاريخا طويلاً من التحدي والصمود بعدما تحوّل أبناءها شبابًا ورجالًا بكل شموخ وعنفوان إلى جدار صلب من الإرادة التي لا تنكسر بردّ شعبي صاعق أربك القوة المهاجمة وكتب للبلدة فصلًا جديدًا في سجل المقاومة الشعبية بأن الكرامة حين تُمسّ تشتعل الأرض نارا وغضبا وأن الشعوب الحيّة لا تُفاجأ بالاعتداء بل تفاجئ المعتدي بالثبات والعزيمة والهزيمة
مع الساعات الأولى للنهار وبينما كانت البلدة تستيقظ على إيقاع يوم هادئ وجدت بيت جن نفسها أمام واقع مختلف تمامًا مع دخول قوة إسرائيلية مدججة بالسلاح توغّلت داخل محيط البلدة بغطاء ناري كثيف لاعتقال عدد من الشباب يشتبه في انتمائهم إلى ما سماه تنظيم الجماعة الإسلامية كانت تعمل وتخطط لشن هجمات ضد مدنيين إسرائيليين بحسب الزعم الاسرائيلي الكاذب الأمر الذي حوّل هذه اللحظة إلى مواجهة غير متكافئة بين قوة عسكرية منظمة وأهالٍ فوجئوا بما يجري داخل شوارعهم وبيوتهم خصوصا وإن دخول القوات الغازية في هذا التوقيت لم يكن مجرد عملية ميدانية عابرة بل كان خطوة سياسية وأمنية تجاوزت حدود البلدة في ظل لحظة إقليمية شديدة الحساسية ما جعل ردود الأفعال على الأرض تمتزج بين الغضب والحدس الدفاعي والوعي الجمعي بأن الصمت والخضوع أمام مثل هذا الاقتحام يعني ترك البلدة واهلها لمصير مجهول
رغم تفوق القوة المهاجمة في العدة والعتاد والتقنيات الا ان ردّ الأهالي شكل لحظة فارقة في سير الحدث حيث برزت المقاومة الشعبية غير المنظمة النابعة من وعي طبيعي وغريزي بضرورة حماية الأرض والمواطنين والممتلكات ليتحول الدفاع الشعبي من رد فعل فردي إلى موقف جماعي حيث تقدم عدد من شباب البلدة لمواجهة عناصر القوة المهاجمة بأسلحتهم الفردية البسيطة في حالة اشتباك غير موقعة أربكت القوة الإسرائيلية وأجبرتها على التراجع والانسحاب وزيادة قوتها النارية عن بعد تاركة خلفها مركبة عسكرية بكامل معداتها وفي خضم الاشتباك أُصيب ستة جنود اسرائيليين ثلاثة منهم إصاباتهم كانت خطيرة وهو رقم يعكس حجم المفاجأة والجراءة التي واجهتها القوة المهاجمة وبما يثبت أن المقاومة الشعبية مهما كانت محدودة فهي قادرة على تغيير المعادلة الميدانية ولو بشكل نسبي ومحدود
لقد دفع أهالي بيت جن ثمنًا باهظًا في هذه المواجهة كان اشبه بالمجزرة إذ استشهد ثلاثة عشر شخص بينهم نساء وأطفال وسقط عدد من الجرحى فضلا عن الدمار الكبير للمنازل والممتلكات ونزوح عشرات العائلات إلى مناطق أكثر أمناً ما جعل البلدة تواجه مأساة إنسانية موازية للمواجهة العسكرية الغادرة ومع أن الأرقام تحمل قسوتها الخاصة فإن وقعها على الذاكرة الجمعية للبلدة كان أعمق بكثير كونها تؤسس لمفهوم وطني راسخ بأن الدفاع عن الارض والوطن ليس خيارًا بل ضرورة لابد منها وفي زيارة وزير الإعلام السوري البلدة برفقة محافظ دمشق لتفقد الأوضاع بدا واضحًا أن الدولة تسعى إلى احتواء آثار الحادثة الصادمة والتأكيد على دعمها للأهالي لكن ذلك لم يُلغِ الحقيقة الأكبر بان اجهزة الدولة العسكرية والامنية كانت غائبة وأن مبادرة المقاومة الشجاعة في بيت جن جاءت من الناس أنفسهم والتي جسّدت نموذجًا متجددا من ارث الصمود الشعبي السوري عبر تاريخ المنطقة الطويل
ما جرى لم يكن حادثًا عابرًا بل اختبار حقيقي لصلابة المجتمع المحلي وقدرته على امتصاص الصدمة والمبادرة في التصدي والهجوم ما جعل حادثة في بيت جن مثالًا حيا على طبيعة المواجهة غير المتكافئة التي تُفرض غالبًا على المجتمعات المدنية حيث لا يملك السكان سوى ما يتوفر في أيديهم من أدوات بسيطة مشبعة بالعزة والكرامة والدافع الوطني وقادرة على الحاق الهزيمة بالمعتدين
هذه المواجهة الشرسة أخذت بعدها الإنساني الأعمق في لحظة بطولة الشاب الشهيد العريس حسن السعدي الذي كان ينتظر زفافه في يوم الهجوم قبل أن يجد نفسه أمام واجب وطني مقدس حيث خرج ممتشقًا سلاحه دون قرار عسكري أو توجيه من جهة ما بل انطلاقًا من إحساس داخلي بأن حماية بلدته وعائلته مسؤولية متقدمة حتى على موعد مصيري بحجم زفافه وفرحة عمره والتي اختصرت كثيرًا من مفاهيم ومعاني المقاومة الشعبية بأن الناس العاديين والبسطاء الذين يعيشون لحظاتهم الإنسانية الغالية يمكن في لحظة وطنية حاسمة أن يتحولوا إلى خطوط دفاع ومقاومة ونجدة وأن يصوغوا بأفعالهم الصغيرة معادلات سياسية كبرى لم تكن مطروحة على الطاولة من قبل ومن هذه الزاوية لم يكن الشهيد السعدي مجرد شاب فقد حياته بل نموذجًا للقدرة على تحويل اللحظة الإنسانية الخاصة إلى موقف مقاوم عام يحمل في طياته بعدًا وطنيًا واجتماعيًا بعدما بات رمزا عظيما لمعاني الحياة والموت والفرح والفقد ما يعكس بوضوح طابع التضحيات العميق للمقاومة الشعبية عندما تفرض تحت ضغط وجودي من قبل محتل مجرم ومتغطرس
في ذات السياق يمكن ان تتسع دائرة التحليل لتشمل البعد السياسي للحدث فبيت جن لم تكن مجرد نقطة على خريطة ارض المواجهة فقط بل أصبحت نموذجًا يوضح كيف يمكن لمجتمع محلي صغير أن يعيد تشكيل معادلة أوسع تتعلق بميزان القوة وبصورة الاحتلال والقدرة على خلق تكاليف ميدانية وسياسية غير متوقعة سيما وان المقاومة الشعبية التي ظهرت بفخر واعتزاز في البلدة اثبتت أن العوامل الاجتماعية مثل الترابط العائلي والانتماء المكاني والذاكرة الجمعية قادرة على أن تتحول عند الضرورة إلى أدوات دفاعية فاعلة وأن الاحتلال مهما بلغ من قوة وبطش لا يستطيع أن يمر بسهولة في مناطق تمتلك هذا النوع من التماسك والعزيمة وهذا ما جعل حدث في بيت جن يتجاوز كونه اشتباكًا عسكريًا ليصبح لحظة سياسية بامتياز لأن المجتمعات التي تقاوم بدون تنظيم مسبق تفرض حتما إعادة النظر في استراتيجيات القوة وكلفة التمدد العسكري كما تجعل التفكير في احتمالات تكرار السيناريو في مناطق أخرى اكثر حساسية ودقة وصعوبة وهو ما جعل اسرائيل عقب فشل توغلها على استهداف بلدة بيت جن بقصف جوي وحشي ومتعمد
القراءة الأعمق لواقعة بيت جن كشفت بشكل عام عن فراغ واسع تركته السلطات والأنظمة في لحظة كان يفترض أن تكون فيها حاضرة سواء بالردع أو بالتحرك السياسي أو حتى بالموقف المبدئي وهذا ما اضطر الناس المقاومين لان يكونوا هم الفاعل الأساسي في المواجهة وهو أمر تكررت مشاهدته في أكثر من سياق منذ عدة سنوات حيث تتردد الأنظمة وتتحرك الشعوب فيتحول المواطن العادي إلى طرف رئيسي في رسم مسار الاحداث وهو ما يعزز فقدان الثقة في القدرة الرسمية على الحماية ويؤدي الى انبعاث أنماط من المقاومة المحلية التي لا تنتظر قرارًا أو تنسيقًا رسميا بطيئا او متخوفا بل تنشأ عند أول لحظة تهديد وخطر
الحقيقة المؤكدة ان ما جرى في بيت جن شكل في جوهره درسًا سياسيًا ومعنويًا حول معايير توازنات القوة ومرونة المجتمعات وكيف يمكن للأطراف الضعيفة أن تمتلك القوة المعنوية القادرة على إعادة صياغة مسارات الأحداث وان القوة العسكرية المدمرة قد تُحدث أثرًا مباشرًا لكنها لا تستطيع حسم الصراع في مواجهة مجتمع متماسكما وان ملحمة بيت جن الخالدة ليست حدثًا يُطوى بل درس يُحفظ حيث أثبتت البلدة الصغيرة أن الشعوب حين تُختبر تعرف طريقها تحو العزة والكرامة وأن الدفاع عن الأرض يبدأ من وعي الفرد قبل سلاحه ومن عزيمة المجتمع قبل مؤسساته
ما قدمه الشهيد السعدي ورفاقه من الشهداء في مواجهة الاعتداء الاسرائيلي الاجرامي ليس مجرّد ذكرى لبطولة خالدة بل وصية بأن لا يُترك الحق بلا حارس ولا تبقى الكرامة بلا صوت وان لا تموت الأرض بلا مقاومة واليوم ونحن نستخلص اقدس المعاني من تلك اللحظات الثقيلة فأننا ندرك أن مستقبل جميع القرى والمدن السورية الحدودية والوطن بكامله لن يُكتب إلا بوعي أبنائه وقدرتهم على الوقوف صفًا واحدًا كلما امتدّ الظلم في ديارهم أو حاول المعتدٍي اختراق حدودهم لتبقى ملحمة بيت جن نبراسًا هاديا للمقاومة والصمود والتضحية ولتحمل الاجيال المقبلة في اعناق عهدًا بالثائر والانتقام لدماء الابرياء والشهداء على قاعدة ان إرادة الشعوب هي الطريقً الوحيد للدفاع عن الارض والكرامة العربية في اي زمان وكان
يبقى السؤال الاخير لماذا بالتوازي مع القصف الاسرائيلي المتواصل هرعت الطائرات الحربية الأمريكية لقصف بلدة بيت جن بعد العدوان الإسرائيلي مباشرة في الوقت الذي تدعي فيه انها تقوم بالوساطة بين اسرائيل وسوريا لتهدئة الصراع ووقف الاعتداءات الاسرائيلية والمهم في ذلك ما الذي يخيف واشنطن من عناصر الجماعة الإسلامية المتواجدة في هذه البلدة الصغيرة ؟
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

