يَشِيخُ الحُبُّ كَمَا نَشِيخُ نَحْنُ؟ // سعيد ذياب سليم

يَفرِضُ عَلَيْنَا هٰذَا السُّؤَالُ أَنْ نَتَخَيَّلَ لِلْحُبِّ كِيَانًا مُسْتَقِلًّا عَنَّا، وَدَوْرَةَ حَيَاةٍ تَخْتَلِفُ عَنْ دَوْرَةِ حَيَاتِنَا؛ كَأَنَّهُ يَسِيرُ مَعَنَا لَا فِينَا، يُرَافِقُ مَشْوَارَنَا، وَيَرْعَانَا حِينًا وَيَتْرُكُنَا نَتَعَثَّرُ حِينًا آخَرَ.
يُصَوَّرُ الحُبُّ غَالِبًا كَطِفْلٍ صَغِيرٍ، لَطِيفٍ وَشَغُوفٍ، نَسْعَى لِإِسْعَادِهِ وَتَلْبِيَةِ رَغَبَاتِهِ، نُدَلِّلُهُ وَنُهَيِّئُ لَهُ لُعَبَهُ وَحَلْوَاهُ، وَنَفْرَحُ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا عَلَى قُلُوبِنَا. فِي هٰذِهِ الصُّورَةِ يَبْدُو الحُبُّ بَرِيئًا وَسَهْلَ المُرَاسِ، كَأَنَّنَا نَمْلِكُ القُدْرَةَ عَلَى احْتِضَانِهِ وَتَرْوِيضِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الصُّورَةَ لَيْسَتْ مُكْتَمِلَةً؛ فَالحُبُّ قَدْ يَخْلَعُ ثَوْبَ البَرَاءَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهًا آخَرَ: ذِئْبًا مَاكِرًا، أَوْ ثَعْلَبًا خَفِيفَ الخُطَى، لَهُ مَخَالِبُ خَفِيَّةٌ تُرَاقِبُ ضَعْفَنَا، وَتَأْخُذُ مِنَّا مَا نَشْتَهِي أَنْ نُعْطِيَهُ، ثُمَّ تَمْضِي تَارِكَةً أَثَرَهَا فِينَا. هُنَا يَبْدَأُ السُّؤَالُ الحَقِيقِيُّ: هَلِ الحُبُّ كَائِنٌ يُمْكِنُ امْتِلَاكُهُ وَالتَّحَكُّمُ فِيهِ، أَمْ قُوَّةٌ هَائِمَةٌ تَتَجَاوَزُ قَوَانِينَنَا وَرَغَبَاتِنَا؟
وَيُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَى الحُبِّ كَرُوحٍ حُرَّةٍ لَا تَسْتَجِيبُ لِقَوَاعِدِ الإِنسَانِ وَلَا لِقُيُودِهِ. نَهْرُبُ مِنْهُ فَيُطَارِدُنَا، وَنُطَارِدُهُ فَيَهْرُبُ، نَظُنُّ أَنَّنَا نُسَيْطِرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا بِهِ يَتَسَلَّلُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِنَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَمَعَ مُرُورِ الزَّمَنِ، قَدْ تَخْذُلُنَا خِبْرَتُنَا؛ فَالحُبُّ وَحْدَهُ يَبْقَى شَابًّا، حَيَوِيًّا، صَاخِبًا، بَيْنَمَا نَتَغَيَّرُ نَحْنُ وَنَشِيخُ.
وَفِي لَحْظَةٍ مَا، يُمْكِنُ أَنْ نَتَخَيَّلَهُ مِثْلَ بَغْز بَانِي: أَرْنَبٍ رَمَادِيٍّ ذَكِيٍّ وَطَرِيفٍ، يَحْمِلُ جَزْرَتَهُ دَائِمًا وَيَقْضِمُهَا بِثِقَةٍ، كَأَنَّهُ يُمْسِكُ خِيطَ اللُّعْبَةِ كُلَّهَا. لَا يُقَاتِلُ بِالقُوَّةِ بَلْ بِالمَكْرِ، وَيُرْبِكُ مُطَارِدِيهِ بِمَقَالِبِ خَفِيفَةِ الظِّلِّ: يَحْفِرُ الأَنْفَاقَ فِي اللَّحْظَةِ المُنَاسِبَةِ، وَيُغَيِّرُ اللَّافِتَاتِ، وَيَقُودُ الآخَرِينَ إِلَى طُرُقٍ مَسْدُودَةٍ، بَيْنَمَا يَقِفُ هُوَ بِهُدُوءٍ يَسْأَلُ
“What’s up, Doc?”
هَادِئٌ حِينَ يَثُورُ الجَمِيعُ، وَمَرِحٌ حِينَ تَتَعَقَّدُ المَوَاقِفُ؛ لِذٰلِكَ صَارَ رَمْزًا لِلْمُشَاكَسَةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي لَا تُهْزَمُ.
لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يَشِيخَ هٰذَا الطِّفْلُ الشَّقِيُّ، أَوْ يَتْعَبَ هٰذَا المُشَاكِسُ الظَّرِيفُ، لَا بُدَّ أَنْ نَتَسَاءَلَ: مَا مَسْؤُولِيَّتُنَا تُجَاهَهُ؟ تُجَاهَ ذٰلِكَ الكَائِنِ الصَّغِيرِ الَّذِي أَحْبَبْنَاهُ، وَذٰلِكَ الصَّخَبِ الحَيِّ الَّذِي مَلَأَ حَيَاتَنَا بِخِفَّةِ ظِلِّهِ؟ هَلْ نَتْرُكُهُ يَذْبُلُ وَيَمُوتُ، ثُمَّ نَبْنِي فَوْقَهُ قَبْرًا فَخْمًا لَا يَحْتَوِي دَاخِلَهُ إِلَّا التُّرَابَ؟ إِنَّ لِلْحُبِّ ـــ مَهْمَا شَاغَبَ وَتَمَرَّدَ ـــ حَقَّ الرِّعَايَةِ، وَحَقَّ أَنْ نَمُدَّ لَهُ يَدَنَا حِينَ يَتَعَثَّرُ، لَا أَنْ نَتْرُكَهُ يَمُوتُ ثُمَّ نُخَلِّدَ ذِكْرَاهُ فِي حَجَرٍ بَارِدٍ. رُبَّمَا تَكُونُ مَسْؤُولِيَّتُنَا الأُولَى أَنْ نَحْفَظَ لَهُ نَبْضَهُ، وَأَنْ نَمْنَحَهُ فُرْصَةً أُخْرَى لِيَكْبَرَ مَعَنَا بَدَلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى ذِكْرَى جَمِيلَةٍ… مَيْتَةٍ.
لَعَلَّ مِنَ المَنْطِقِيِّ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى هٰذِهِ الحَالَةِ كَعَلَاقَةٍ ثُلَاثِيَّةٍ: الأَنَا، وَالآخَرُ، وَكَائِنُ الحُبِّ الَّذِي يَقِفُ بَيْنَهُمَا ثَالِثًا.
فَكُلُّ قُطْبٍ مِنْ هٰذِهِ الأَقْطَابِ يُؤَدِّي دَوْرَهُ، وَيَقُومُ بِوَاجِبَاتِهِ تُجَاهَ الآخَرِينَ، لِيَسْتَحِقَّ فِي المُقَابِلِ حُقُوقَهُ. وَهَكَذَا تَظَلُّ لِلأَنَا شَخْصِيَّةٌ وَاضِحَةُ المَعَالِمِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِاحْتِرَامٍ، وَيَسِيرُ الحُبُّ فِي رِدْهَاتِهَا بِقَدَاسَةٍ؛ ذٰلِكَ الحُبُّ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَهُمَا وَرَعَيَاهُ مَعًا.
وَلَعَلَّ أَجْمَلَ مَا يُشْبِهُ هٰذَا المَعْنَى قِصَّةُ رَجُلٍ كَانُوا يَرَوْنَهُ يَعْتَنِي بِزَوْجَتِهِ الَّتِي فَقَدَتْ ذَاكِرَتَهَا وَنَسِيَتْ مَنْ حَوْلَهَا، وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ بِدَهْشَةٍ صَادِقَةٍ:
«لِمَاذَا تُوَاصِلُ العِنَايَةَ بِهَا وَقَدْ نَسِيَتْكَ تَمَامًا؟»
فَيَبْتَسِمُ تِلْكَ الاِبْتِسَامَةَ الهَادِئَةَ الَّتِي تُشْبِهُ اليَقِينَ أَكْثَرَ مِمَّا تُشْبِهُ التَّبْرِيرَ، وَيَقُولُ:
“هِيَ رُبَّمَا نَسِيَتْ مَنْ أَكُونُ… لَكِنَّنِي مَا زِلْتُ أَذْكُرُ.”
وَكَانَ هٰذَا الجَوَابُ ــ البَسِيطُ وَالعَمِيقُ مَعًا ــ يُذَكِّرُنِي بِمَا يُنْسَبُ إِلَى غَابْرِييل غَارْثِيَا مَارْكِيز فِي رِسَالَتِهِ إِلَى صَدِيقِهِ:
“إِذَا فَقَدْتَ الذَّاكِرَةَ، فَبِإِمْكَانِكَ دَائِمًا أَنْ تَتَذَكَّرَنِي. سَأَنْتَظِرُكَ فِي زَوَايَا النِّسْيَانِ.”
فَالحُبُّ الحَقِيقِيُّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَاكِرَةٍ كَيْ يَبْقَى؛ إِنَّهُ يَعِيشُ فِي تِلْكَ الزَّاوِيَةِ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا النِّسْيَانُ، إِلَّا إِذَا نَحْنُ تَخَلَّيْنَا عَنْهَا.
وَمَعَ ذٰلِكَ، قَدْ يُفَاجِئُنَا الحُبُّ بِأَنْ يَسْلُكَ سُلُوكَنَا؛ يَتَقَدَّمُ فِي السِّنِّ، وَيَشِيخُ، وَتَظْهَرُ التَّجَاعِيدُ حَوْلَ عَيْنَيْهِ. يُعْلِنُ بِغِلَظَةٍ أَنَّهُ تَعِبَ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِجَازَةٍ طَوِيلَةٍ، إِجَازَةٍ يَنْقَطِعُ فِيهَا عَنِ النَّاسِ عَلَى شَاطِئِ بَحْرٍ بَعِيدٍ… بَعِيدٍ جِدًّا، لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِينَا وَلَا أَحْلَامُنَا. فَهُوَ مُرْهَقٌ مِنْ حَنَانِنَا الزَّائِدِ عَلَيْهِ، مَرِيضٌ بِغَيْرَتِنَا، مُحْرَجٌ مِنْ تَعَلُّقِنَا الطُّفُولِيِّ بِهِ، يَضِيقُ وَيَمَلُّ، وَيَرْغَبُ فِي أَنْ يَخْتَفِيَ قَلِيلًا مِنَ المَشْهَدِ.
وَمَعَ كُلِّ هٰذِهِ الصُّوَرِ، يَبْقَى الحُبُّ ـــ بِوَصْفِهِ شُعُورًا مُجَرَّدًا ـــ مُخْتَلِفًا عَنِ الجَسَدِ الَّذِي يَشِيخُ. فَحِينَ يَكُونُ الحُبُّ عِلَاقَةً تَرْبُطُ شَخْصَيْنِ، فَإِنَّهُ يَمُرُّ بِدَوْرَتِهِ الخَاصَّةِ: يُولَدُ شَغُوفًا، يَافِعًا، مُلِيئًا بِالاكْتِشَافِ؛ ثُمَّ يَنْضُجُ لِيُصْبِحَ بَيْتًا هَادِئًا وَسَنَدًا رَاسِخًا؛ وَقَدْ يَهْرَمُ أَوْ يَتَلَاشَى إِذَا أَصَابَهُ الإِهْمَالُ أَوْ غَلَبَهُ الفُتُورُ. أَمَّا الحُبُّ كَطَاقَةٍ شُعُورِيَّةٍ فَشَيْءٌ آخَرُ؛ قُدْرَةُ الإِنسَانِ عَلَى العَطَاءِ وَالانْتِمَاءِ لَا تَتَقَاعَدُ، بَلْ تُغَيِّرُ اتِّجَاهَهَا، تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى. وَيَبْقَى لِلْحُبِّ مُسْتَوًى ثَالِثٌ، أَعْمَقُ: الحُبُّ كَفِكْرَةٍ أَزَلِيَّةٍ، كَقُوَّةٍ كَوْنِيَّةٍ تَحَدَّثَ عَنْهَا الشُّعَرَاءُ وَالفَلَاسِفَةُ؛ فِكْرَةٌ لَا تَمُوتُ لِأَنَّهَا لَا تَخُصُّ فَرْدًا بِعَيْنِهِ، بَلِ البَشَرَ جَمِيعًا. تَمُوتُ الأَجْسَادُ وَتَبْقَى القَصَائِدُ شَاهِدَةً عَلَى أَنَّ الحُبَّ، فِي جَوْهَرِهِ، أَبْقَى مِنَ العُمْرِ وَأَطْوَلُ مِنَ الوَقْتِ.
إِنَّ فَهْمَ الحُبِّ يَتَطَلَّبُ إِدْرَاكَ هٰذِهِ الطَّبَقَاتِ المُتَرَاكِبَةِ: طُفُولَتَهُ البَرِيئَةَ، وَخِدَاعَهُ المُحْتَمَلَ، وَشَبَابَهُ المُشَاكِسَ، وَتَعَبَهُ الخَفِيَّ، وَمَرَاحِلَهُ فِي العَلَاقَاتِ، وَقُوَّتَهُ البَاقِيَةَ فِي النَّفْسِ، وَخُلُودَهُ كَفِكْرَةٍ. وَرُبَّمَا يَكْمُنُ جَمَالُهُ فِي هٰذَا التَّنَاقُضِ نَفْسِهِ: أَنَّهُ يَبْقَى حَيًّا فِينَا جَمِيعًا، مَهْمَا طَالَ بِنَا العُمْرُ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة