المعضلة المائية في العلاقات الدولية


د. سلام الربضي

 

بقلم /د. سلام الربضي \ مؤلف وباحث في العلاقات الدولية. اسبانيا  

بالنظر إلى توقع المخاطر العالمية المستقبلية من حيث القدرة على التأثير، تم تصنيف أزمات المياه على أنها الخطر الأكبر الذي سوف يواجهه العالم في المستقبل القريب([1]). إذ يبدو هنالك فجوة جديدة يمكن تسميتها بالفجوة المائية وهي تزداد اتساعاً، والتي باتت واحدة من أهم الجدليات المطروحة في العلاقات الدولية([2]). فندرة المياه تشكل تهديداً خطيراً للأمن الإنساني، إلى درجة الاعتقاد أن الحروب القادمة ستكون بالدرجة الأولى حروباً وتنافساً على مصادر المياه([3]). فمستقبلاً سوف يكون هنالك عدة إشكاليات مطروحة حول ما هو مطلوب تحقيقه على صعيد كيفية مقاربة المعضلة المائية، ومنها:

  • هل هنالك رؤى سياسية ودبلوماسية خلاقة على مستوى العلافات الدولية بإمكانها مقاربة الفجوة المائية مقاربة علمية قابلة للتطبيق والحوكمة والمساءلة؟
  • هل ستلعب الأيدي الخفية في الأسوق لعبتها في حال فشل المقاربات السياسة، لتنتقل المقاربة إلى الاقتصاد ولتصبح القضايا المائية سلعاً خاضعة لمنطق الأسواق التجارية ؟

وبناءً على تلك المعضلات، منهجياً يجب التركيز أولاً على معضلة كيفية فهم تعقيدات المنظومة المائية، من أجل إمكانية إيجاد مقاربة منطقية وحلول مستدامة. فعندما يتم التفكير بأزمة ندرة المياه من الضروري ألا ينحصر التركيز على النقص المطلق بين إجمالي الحاجات والإمدادات المتوافرة، وإنما ينبغي التركيز كذلك على:

  • وجود الماء النظيف القابل للاستعمال وتكاليف جلبه إلى التجمعات السكانية.
  • البصمة المائية أو ما يسمى المعيار العالمي للبصمة المائية([4]).
  • ضمان ما يكفي من الماء لزراعة الأغذية([5]).

وبالتالي، من أجل فهم أزمة المياه يجب التمييز بين مشكلتين مختلفتين وتتطلبان حلولاً متنوعة: الأولى تكمن في كيفية الحصول على مياه الشرب الميسورة التكلفة(أي مشكلة الخدمات)، والثانية تكمن في كيفية تأمين مصادر مائية لزراعة الغذاء(أي مشكلة ندرة المياه). وبناءً على تلك المشكلات يمكن تصنيف التحديات المائية على هذا النحو:

  • أزمة الوصول إلى المياه([6]).
  • أزمة تلوث المياه.
  • أزمة ندرة وقلة المياه ([7]).

وبناء عليه، يتعين على المجتمعات العلمية والسياسية إدراك الأسباب العالمية والمحلية لأزمات المياه، والاستجابة لها بفعالية. إذ من خلال النظر إلى آلية العلاقة المتبادلة بين تلك التحديات أو الأزمات، يمكن تحديد الخصائص المميزة للفجوة المائية والعوامل التي يمكن أن تساعد على حلها. ونتيجة لذلك، لا بد من محاولة فهم الدوافع السياسة وعملية صنع القرار المائي على الصعيد المحلي أو العالمي، وأن يتم التركيز على مجموعة واسعة من الخيارات التي لها علاقة بفهم تغيرات بنية أزمة المياه العالمية والتنبؤ بها، وهذا يستوجب مزيجاً من:

  • التحول نحو تبني وجهة نظر أكثر شمولية لإدارة المياه ونقلها لاستعمالات أعلى قيمة.
  • حلول تقنية مؤتلفة من النانوتكنولوجي والقرائن الرصينة حول إدارة خطر المناخ([8]).

وعلى الرغم من أن كثيراً من الحلول البديلة معروفة فإن تطبيقها ليس سهلاً، إذا ما أخذ بعين الاعتبار التكاليف السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، يمكن القول أنه بالإمكان تحويل التشاؤم المائي الحالي إلى تفاؤل مستقبلي، إذا ما تمت بلورة استراتيجة سياسية. ولكن للأسف، فمع إنه بات واضحاً للعيان – إلى حد ما-  التداعيات العميقة للفجوة المائية، إلا أنه نادراً ما يتم التفكير بكونها تحدياً سياسياً، إذ حالياً ليس هنالك رؤية على مستوى كيفية إيجاد مقاربة سياسية لتلك الفجوة.

ومن الجدير ذكره هنا، أنهُ كان هنالك سابقاً(عند بدء عمل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC) إدراك أولي للأبعاد السياسية والاجتماعية لأهمية القضايا المائية، يوازي الإدراك الذي كان موجوداً لأبعاد مشكلة التغير المناخي([9]). ولكن إذا كانت قد احتاجت مجموعة المناخ (IPCC) ما يقارب من 30 عاماً من العمل قبل أن يأخذ العالم أزمة المناخ على نحو جاد، فما هو الحال بالنسبة للمسألة المائية([10])؟

ومن الجانب الاستراتيجي السياسي، يمكن لنا الاكتفاء بمراجعة التقرير الأمني لوكالة الاستخبارات الأميركية حول التوقعات المستقبلية للاتجاهات العالمية في العام 2030، والذي يشير إلى أن حقيقة الأزمة المائية سوف تؤدي إلى تغيرات جيوسياسية في غاية الأهمية، ناهيك عن عدم استبعاد حدوث صراعات ونزاعات مائية بين الدول([11]). وبالتالي، إن نفي التحذيرات التي تطلق بشأن اندلاع حروب مائية أو اعتبارها مجرد إدعاءات زائفة، أمرٌ يُثير كثير من علامات الاستفهام. إذ بات هنالك  تداعيات استراتيجية خطيرة للمنافسة على المياه العذبة، وحروب المياه موجوده بالفعل، على الرغم من عدم الاعتراف بذلك بشكل مباشر([12]).

وفي هذا الإطار، استمرار منطق تغييب البعد السياسي للإشكاليات المائية غير مبرر، خاصة على صعيد المنظمات الدولية([13]). إذ لا بد من الاعتراف بأن التغيرات العالمية المرتبطة بالفجوة المائية تبين وبكل وضوح أن مستوى الأمن في العلاقات الدولية قد تغير بشكل عميق.

في المحصلة، يبدو إن وطأة تأثير التغير المناخي على مستوى العلاقات الدولية، سيجعل من الفجوة المائية قضية سياسية معقدة للغاية، وهذا يتطلب وعياً واسع النطاق والتسليم بأن تغير المناخ حقيقي وباقٍ. عندئذ على الأرجح، قد يتم أدراك أنه إذا كان تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري يدور كله حول إشكاليات الطاقة، إلا أن التكيف مع تغير المناخ سيكون حتماً مرتكز ويدور حول إشكاليات الفجوة المائية.

 

([1]) أما المخاطر الأخرى من حيث التأثير  فهي: 1– الانتشار السريع والواسع للأمراض المعدية. 2– أسلحة الدمار الشامل. 3– الصراعات بين الدول. 4– عدم التكيف مع التغيرات المناخية. وذلك انطلاقاً من رؤية ما يقرب من 900 خبير شاركوا في استبيان المنتدى الاقتصادي العالمي  للعام 2015 حول أبرز المخاطر العالمية المستقبلية، من حيث احتمالية حدوثها وقدرتها على التأثير على مدار 10 سنوات القادمة. والتقرير متوافر على الرابط: http://wef.ch/grr2015.

([2]) وفي هذا السياق تم تبني أهداف تنمية الألفية، التي شملت تعهداً بخفض عدد البشر الذين لا يستطيعون الحصول على ماء مأمون وميسور التكلفة، ومع ذلك لا يزال أكثر من مليار شخص في نهاية عقد المياه لا يمكنهم الحصول على ذلك الماء. للاطلاع على أهداف التنمية الألفية، يمكن مراجعة:  https://www.un.org/ar/millenniumgoals.

([3]) هنالك حالياً أكثر من 80 دولة يوجد بها 40% من سكان العالم تعاني نقصاً شديداً في المياه. ويعيش ما يقدر بنحو 3.6 مليار شخص في مناطق يحتمل أن تكون نادرة المياه. ويمكن أن يزيد هذا العدد إلى ما بين 4.8 مليار إلى 5.7 مليار بحلول عام 2050. تقرير،“الحلول المرتكز على البيئة لدعم الموارد المائية”، الأمم المتحدة بشأن المياه في العالم، نيويورك،2018. وكذلك لمتابعة الاحصاءات والمعطيات المائية الحديثة، يمكن مراجعة: موقع مجلس المياه العالمي: http://www.worldwatercouncil.org/. وكذلك منتدى المياه العالمي: http://www.worldwaterforum7.org

([4]) البصمة المائية: إجمالي حجم المياه العذبة التي يتم استخدامها لإنتاج السلع والخدمات المستهلكة من قبل الفرد أو المجتمع أو التي تنتجها الشركات. وبالتالي يمكن للبصمة المائية المساعدة على دفع العمل الاستراتيجي نحو استخدام مستدام وفعال ومنصف للمياه. حيث توفر رؤى قوية للشركات لفهم مخاطر الأعمال المتعلقة بالمياه ، وللحكومات لفهم دور المياه في اقتصادها واعتمادها على المياه ، وللمستهلكين لمعرفة كمية المياه المخفية في المنتجات التي يستخدمونها.انظر: https://waterfootprint.org/en .

([5]) إن ندرة المياه لا تعني عدم وجود ما يكفي من المياه للشرب فقط، وإنما كذلك ما لا يكفي لزراعة الغذاء.

([6]) هنالك أكثر من مليار شخص، لا يستطيعون الوصول إلى مياه شرب نظيفة، ونتيجة لذلك كان من أهداف الألفية للأمم المتحدة تخفيض نسبة الذين لا يستطيعون الوصول بشكل مستدام إلى مياه شرب نظيفة إلى النصف. ولكن، المجتمع الدولي لم يتقدم كثيراً في تحقيقها حتى الآن، مما يطرح التساؤل حول  الأسباب الكامنة وراء صعوبة تحقيق هذه الأهداف.

([7]) يمكن اعتبار ندرة المياه، المكون الأساسي لأزمة المياه الثلاثية، لأنها يمكن أن تتسبب بحدوث أزمتي عدم الوصول للمياه وتلوثها، أو على الأقل إلى تفاقمهما.

([8]) فالتطور العلمي الحاصل في علوم المياه والنانو تكنولوجي يبدو واعداً وخاصة على مستوى إشكالية ندرة المياه. إذ تَعد بتخفيض تكاليف تحلية مياه البحر وتنقية متخصصة لمياه الصرف الصحي.

([9]) تأسست الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ‎(IPCC)‏ عام ‎1988‏ لتقديم تقديرات شاملة لحالة الفهم العلمي والفني والاجتماعي والاقتصادي لتغير المناخ وأسبابه وتأثيراته المحتملة واستراتيجيات التصدي لهذا التغير. يمكن مراجعة : https://www.ipcc.ch.

([10]) فعلى سبيل المثال، احتمال أن تنفذ المياه الجوفية في شمال الهند خلال عقود قادمة وما ينتج عن ذلك من انهيار الزراعة، لا ينظر إليه على أنه مشكلة عالمية. كذلك الأمر بالنسبة للنهر الأصفر الذي لم يعد يصل إلى البحر. كما لا ينظر إلى السير يومياً ثلاث ساعات من أجل الوصول إلى ماء شرب نظيف في المناطق الريفية في أفريقيا على أنها مشكلة عالمية.

[11]))  Report,”Global Trends 2030: Alternative Worlds”,Office of the Director of National Intelligence,National Intelligence Council,U.S.A,2012,p.2.

[12]))  ومنها على سبيل المثال: 1– مسألة كشمير المستعصية لها حسابات مائية استراتيجية من قبل كل من الهند وباكستان. 2– الصراع العربي الإسرائيلي هو في جانب مهم منه صراع على الموارد المائية. 3– أزمة دارفور السودانية في جوهرها صراعاً حول المياه.4– التوتر التاريخي في العلاقة بين كل من تركيا والعراق وسوريا، يرتبط بتوزيع الحصص المائية لنهري دجلة والفرات. 5– الوضع المائي المتوتر بين مصر والسودان وأوغندا وأثيوبيا حول مياه نهر النيل. 6– الحرب السورية ببعدها الاجتماعي والاقتصادي ترتبط ارتباط شديد بشح المياه وزيادة الجفاف. 7-حروب الإرهاب باتت تصبغ بلون مائي (ويكفي هنا مجرد التفكير بمحاولة داعش تفجير سدود المياه في سوريا والعراق).

[13]))  فعلى الرغم من النقلة النوعية الإيجابية لتقارير الأمم المتحدة في الإضاءة على المعضلة المائية، ولكن يتم التجاهل( بشكل شبه كامل) الشق المتعلق بكيفية مواجهة الأبعاد السياسية للأزمات المائية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.