النهج التشاركي في خطاب العرش السامي


د.عبدالله محمد القضاة

=

لدى إفتتاحه أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة التاسع عشر، تحدث جلالة الملك عن محورا هاما؛ حيث يقول ” أما فيما يتعلق بمساري التحديث الاقتصادي والإصلاح الإداري، فالهدف منهما تحقيق التعافي من الظروف التي فرضتها أزمة كورونا وبناء أسس راسخة لشراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص، لإقامة استثمارات توفر فرص العمل وتحفز النمو والاستفادة من القطاعات الواعدة والطاقات البشرية المؤهلة” وهذا التوجيه يعد إيذانا بتطبيق النهج التشاركي الذي هو أحد أعمدة حوكمة المنظومة الإدارية للدولة في ولوجها المئوية الثانية من عمرها المديد.

الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني أصبحت خيارا إستراتيجيا، فلا يمكن تصوّر نهضة و تطوّر في المملكة دون وجود كفاءات تعمل على تطوير سياسات الدولة بما يتناسب وتحدّيات المرحلة، و حيثُ أن هذه السياسات تنعكس علينا جميعا، فإنّ المشاركة في تحديدها من طرف الجهات الثلاث يغدو أمرا ضروريا: المجتمع المدني، القطاع الخاص، والحكومة هي التي تعمل على تنفيذ السياسات على أرض الواقع، فالحوكمة الرشيدة تعني أنّه لا يمكن التفرّد بأخذ القرار بمعزل عن بقية مكونات الدولة و المجتمع.

الشراكة على مستوى السياسات – كأحد عناصر الحوكمة – مازالت محدودة وغير مقنّنة بالشكل الكافي في الدولة لغياب أطر تشريعية واضحة تؤسّس لتواصل فعّال ودائم بين صناع القرار من جهة و المجتمع المدني والقطاع الخاص من جهة أخرى، كما أن الشراكة تعد حجر الأساس في إدارة الأزمات؛ فالقرارات الحيوية للحكومة لابد من أن تتصف بالسلامة والقبول والركن الآخير لن يتحقق من غير تفعيل عملية الشراكة ، وربما تجربة المملكة في ادارة جائحة “كورونا” أثبتت بشكل جلي أهمية هذه الشراكة.

وفي ضوء التوجيه الملكي تبرز الحاجة لإطار مؤسسي يضمن التواصل و التبادل المستمر بين مختلف القطاعات المجتمعية، والأمر يتطلب الى مبادرة الحكومة بدعوة القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني للشراكة وتبيان أهمية هذه الشراكة للأطراف المعنية ، ثم التوصل إلى آلية واضحة وتفصيلية لهذه الشراكة مع ضمان قاعدة مؤسسية للمتابعة والتنفيذ إضافة إلى تشريعات عاجلة تقنن وتنظم أسلوب الشراكة ومهام الشركاء، على أن لاتفرض الحكومة هذه التشريعات وإنما يتم التوافق عليها لتقر من السلطة التشريعية بالشكل الذي يمنع تضارب المصالح ومراعاة الممارسات الدولية في هذا الجانب.

قد يكون من المناسب للحكومة تشكيل مجالس قطاعية على مستوى السياسات – من غير جهاز وظيفي تنفيذي – وهذه المجالس تنعقد دوريا برئاسة الوزير المعني، ولا تنفرد الحكومة في اختيار أي من الممثلين فيها ، فهي تضم نخبة من علماء وخبراء وممارسين يتم ترشيحهم بشكل مؤسسي ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو تم تشكيل ” مجلس السياسات الاقتصادية ” يكون برئاسة وزيرالصناعة والتجارة وعدد من ممثلي الحكومة المعنيين بالشأن الإقتصادي ، ويطلب من القطاع الخاص تسمية ممثلين لديهم الخبرة العملية المناسبة وكذلك مؤسسات المجتمع المدني ولابد هنا من أن يمثل علماء الاقتصاد والخبراء الممارسين ، وقد يتم التغيير النصفي للأعضاء كل اربع سنوات على سبيل المثال.

تتولى هذه المجالس إقتراح السياسات للقطاع وتقديم الأفكار والحلول الإبداعية وكذلك مناقشة مشاريع الحكومة ضمن الإختصاص وتقديم الرأي الإستشاري قبل إتخاذ القرار الحكومي بالشكل الذي يضمن ترشيد ودعم القرار الحكومي وبالتالي ضمان القبول المجتمعي لهذا القرار وتحمل جميع المعنيين مسؤولية تنفيذه بالشكل السليم.

هذه المجالس ، والتي يمكن أن يعمل مركز “دعم القرار” في رئاسة الوزراء كمقرر ومنسق لعملها ومتابعة جلساتها وصياغة وتحليل كافة السيناريوهات المقترحة من كل مجلس ، ستشكل منهجا علميا ابداعيا في العمل الحكومي ، كما أنها لاتربط فشل أو نجاح البرامج الحكومية بشخص رئيس الحكومة او الوزير المعني لأنها تنقل العمل والإنجاز والمساءلة لفرق وطنية تعمل بشكل مؤسسي ومستدام بعيدا عن الفردية والشخصنة ، ناهيك عن تمكين الدولة من الإستفادة من كافة الخبرات الوطنية الأمر الذي ينعكس إيجابا على ولاء الكفاءات الوطنية وإدماجهم في عملية تحديث الدولة المنشودة، وبالتالي تحقيق الرؤية الملكية في إقامة استثمارات توفر فرص العمل وتحفز النمو والاستفادة من القطاعات الواعدة والطاقات البشرية المؤهلة.

*امين عام وزارة تطوير القطاع العام ومدير عام معهد الادارة العامة سابقا

abdqudah@gmail.com

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.