سياسة “التدخل والانسحاب” الأمريكية.


د. كمال الزغول

=

 

منذ غزو العراق عام 2003، اعتمدت الإستراتيجية الامريكية على زج القوات في مناطق الصراع وتشجيع الحلفاء على زج قواتهم في مواجهة تلك الصراعات ، فكما أن هناك دولا مضيفة لدى تدخل قوات حفظ السلام في مناطق الصراع تحت مظلة مجلس الامن الدولي، هناك ايضا دول بسبب مشاكلها الأمنية جذبت تدخل القوات الامريكية لتعسكر في اجوائها وداخل اراضيها، وعليه فإنني اركز في هذا المقال على مبدأ “التدخل والانسحاب” الامريكي الذي بدا لي كبديل للمصطلح السياسي والعسكري “الانتشار واعادة الانتشار” للقوات،وقد اشرت لهذا التعبير كي اجعل القارئ يلمس المعنى الحقيقي للاستراتيجية الامريكية في العقدين الماضيين .

ولعل اول ما يتبادر الى الأذهان ، زج القوات الامريكية في العراق عام 2003 بمشاركة تحالف دولي تشكَّل من الاقليم ومن خارجه ، وتمت الاطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين وبقيت معظم القوات حتى عام 2011 ومن ثم بدأت بالانسحاب متخلية عن دورها في كبح التدخل الاقليمي الايراني في العراق في وقت ما تزال قواته ضعيفة وتحت البناء الهيكلي والامني ،مما ادى الى انتقال هذه العدوى الى اليمن وسوريا ولبنان.

تدخل آخر ،كان بتدخل الامريكيين ضمن حلف الناتو والذي اطاح بالرئيس الليبي معمر القذافي آنذاك ، وانكفأت القوات الامريكية وتركت القوات المتصارعة تتقاتل مما أثر على الوضع المحلي والاقليمي والدولي كنتيجة لهذا الزج السريع للقوات الجوية وسحبه في زمن قياسي ضمن اشهر قليلة.

مبدأ “التدخل والانسحاب” ايضا ظهر باليمن أبان حكم على عبدالله صالح ،وذلك بقصف قوات القاعدة باستمرار التي تنشط في اليمن مما قوى من موقف الرئيس علي عبدالله صالح على حساب ملفات أخرى من ضمنها ملفات حقوق الانسان، والذي ادى الى بدء الربيع العربي في اليمن وظهور ما يسمى “الحوثي” حيث فرض سيطرته على الارض بعدما تخلت الولايات المتحدة عن متابعة دورها في اليمن ،وتركت الحكومة والمعارضة في صراع دموي ،ووصلت الى ما وصلت اليه الامور الآن بسبب تدخلها.

أما سياسة “التدخل والانسحاب” في سوريا أخذت طابعا مختلفا، حيث قدَّمت القوات الامريكية “التدخل” على “انسحاب” القوات ،وتركت الحبل على الغارب ،وقررت عدم التدخل حتى أتت القوات الروسية فعادت القوات الامريكية الى زج قواتها بطريقة جزئية تبعا للتطورات على الارض ، لكن من وجهة نظر خاصة، فإن هذه الطريقة المجزأة في زج القوات أثرت على قطبية الولايات المتحدة أمام المد الروسي، والذي قلص من دور الولايات المتحدة الامريكية في العالم ،والخاسر الوحيد كان الشعب السوري.

في لبنان ،منذ عقود تُرك لبنان تحت رحمة الحركات غير الوطنية والتنافس الطائفي على السلطة حتى اصبحت المسألة اللبنانية مرتبطة بأزمة جيوسياسية في المنطقة وامتدادا لأزمة سوريا بدون حل،واصبح التواجد الروسي في سوريا مؤثرا جدا في تدهور الاوضاع الاقتصادية في لبنان،وهذا انتج فسادا عابرا ومتنقلا مما أظهر صعوبة في الحل في الوقت الحاضر ،خاصة وأن مرفأ بيروت يفقد زخم تجارته يوما بعد يوم.لبنان اليوم لا يوجد فيه احتلال لكن التأثيرات الجيوسياسية ادت الى احتلاله بطريقة غير مباشرة، بسبب تأثيرات استراتيجية “التدخل والانسحاب” الامريكي في المنطقة .

ما يثير الاهتمام أكثر ، قتال طالبان لعقود بعد أحداث ١١ سبتمبر 2001 ، حيث زُجت القوات الامريكية بطريقة قوية مع قوات تحالف دولية ، ونتيجة لتطورات الربح والخسارة على الارض ، انتهى بالولايات المتحدة بعقد محادثات سلام مع طالبان تاركة مبدأ “التدخل” وذاهبة “للانسخاب” والتخلي عن الحكومة الافغانية الحالية ،وهذا ما اشار اليه الرئيس الافغاني الحالي اشرف غني.

الخلاصة ،في جميع مناطق الصراع في العالم زجت الولايات المتحدة الامريكية قواتها بزخم كبير وجزئي ، لكنها لا تحسم مصير تلك المناطق ، وتتركها من دون حلول جوهرية وجذرية، وعليه فإن الدرس المستفاد من كل ما سبق هو أن ايران تيقنت من فكرة “التدخل والانسحاب” الامريكية،ومارست كل انواع التدخل على حسابها وذلك بتبنيها سياسة التفاوض عند زج القوات الامريكية في المنطقة، وممارسة سياسة حافة الهاوية عند انسحابها من مناطق الصراع،وعليه، فإن الدول العربية يجب أن تعتمد على نفسها لايجاد حل لمشاكلها بدءا بحرب اليمن ،والعراق وسوريا ولبنان وليبيا وصولا الى افغانستان، وعكس ذلك ،سنشهد مزيجا من استراتيجية “التدخل والانسحاب” في صراعات بدون حل وبإستفادة ايرانية بحتة.

الدكتور كمال الزغول
كاتب ومحلل سياسي
Alzghoul_kamal@yahoo.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.