عزالدين المناصرة الشاعر الثوري والمفكر المقاوم


مهدي مبارك عبدالله

بقلم /  مهدي مبارك عبد الله

رحل عنا إلى رحمة الله تعالى قبل ايام قليلة متأثرا بإصابته بفيروس
كورونا المستجد القامة الشعرية والثقافية والوطنية الثوري والمقاوم
والناقد المبدع والمفكر القدوة والأكاديمي المتميز الحر النبيل سليل
الجذور الكنعانية الحضارية والابن البار لأرض وشعب فلسطين وثورتها
المجيدة الإنسان المتفرد في خصاله وتواضعه كمثقف مستقل واجه المشكلات
والصعاب دون النظر الى حساب الربح والخسارة ( الدكتور عز الدين المناصرة
) صاحب الابتسامة الهادئة والوجه البهي والصوت النقي المعبر بشجاعة وصدق
عن روح الجماهير العربية المناضلة والثائرة في كل مكان عن عمر ناهز
الرابعة والسبعين عام وقبل اسبوع واحد من عيد ميلاده الخامس والسبعين

ظل فيها قابضا على جمر الكرامة والوطنية والعروبة أمينا على رسالته
ومحافظا على مبادئه وقيمه لم تلوثه عطايا السلاطين ولم تغريه الالقاب
والمناصب ولم تنل من عزيمته عاديات الزمان ولا من ثباته وقوته تقلبات
الايام ولم تأخذه شهوة الشهرة ولم يضعفه ظلم ذوي القربى وبقي كالطود
الشامخ منحازا لما يؤمن به حيث أمضى عمره صادقاً في كل مواقفه السياسية
والثقافية وهو يوثق بشعره للبسطاء والشهداء والأسرى والجرحى من أبناء
شعبه ويحسد فيه نضالاتهم ومآسيهم على طريق العدالة والحرية والنصر حيث
كان يعارض الاستقواء والسطوة ويرفض الاستدراج واغتيال الشخصية وبموضوعية
وجراءة و رجولة ومنطق حاجج مساوئ ومثالب ومخاطر اتفاقية أوسلو المشؤومة
على مستقبل القضية الفلسطينية ووصفها بأنها تشبه نكبة عام ١٩٦٧ ان لم تكن
اكبر

ولد فقيدنا الشاعر المناصرة الساكن فخرا في قلوب وعقول الأجيال
الفلسطينية والعربية التي تغنت بأشعاره ورددت وحفظت قصائده في قرية بني
نعيم بمحافظة الخليل عام 1946 قبل أن تجد دولة اسرائيل اللقيطة موقعا لها
على الخريطة الجغرافية للعالم وقد سمى ابنه البكر كرمل تيمنا بجبل الكرمل
الأكثر ارتفاعا في شمال فلسطين المطل على حيفا أما ابنه الأوسط فحمل اسم
أسلافه كنعان فيما أطلق على وحيدته اسم داليا تيمنا بعنب مدينته الخليل
الأقرب إلى قلبه ووجدانه وكم هو موجع توقيت رحيله في هذه الظلمة الحالكة
التي تحيط بوطنه الفلسطيني الذي سكنه  عزة وكرامة وكما بلاد الشام التي
كثيرا ما كان يفتخر بثراء فسيفسائها  بالتعددية الدينية والعرقية
والفكرية هي ايضا باتت تعيش احترابا داخليا داميا

الشاعر عز الدين المناصرة اسم بحجم المكان الفلسطيني  شاعر متمكن ما خذل
القصيدة يوما وما خذلته وهو الذي عشق التجوال والترحال وعرج في سماوات
الكون باحثا عن حريته كما أوغل في بطن الأرض يتتبع  جذوره وحفر في أقاصي
الوريد تجربة خصبة راسخة في التاريخ والأمكنة وبرحيله فقدت المرأة
الفلسطينية والعربية نصيرا عز نظيره ومفكرا مستنيرا قل مثيله كما خسرت
ارض كنعان والامة شاعر وناقدا واكاديميا وثائر وفدائيا لم يتوان عن حمل
السلاح دفاعاً عن المخيمات والجنوب اللبناني وظل ممسكا بقلمه الحر حتى
الرمق الاخير رغم كل الأوجاع والمآسي لم يساوم او يتراجع وهو يعبر عن نبض
اللاجئ الفلسطيني في المخيم أو خلف متاريس القتال بكل صدق وشفافية

الراحل الكبير ابا كرمل كان مرهف الحس الانساني والوطني وعلى تماس يومي
مع تفاصيل الوجع الفلسطيني حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن في
السبعينيات من القرن الماضي وهو صاحب مسيرة شعرية غنية كما انه من شعراء
المقاومة وقد اقترن اسمه بالثورة الفلسطينية في بيروت وأطلق عليه وعلى
محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد لقب ( الأربعة الكبار ) في الشعر
الفلسطيني كما وصفه الناقد الفلسطيني إحسان عباس بأحد أهم رواد الحركة
الشعرية الحديثة في الوطن العربي ومن أهم النقاد المقارنين العرب

وقد قالت فيه الباحثة الإيرانية مريم السادات ميرقادري ان ( المناصرة
شاعر عالمي بكل المقاييس ) كما قال عنه الاديب الفرنسي كلود روكيه مدير
دار سكامبيت في حفل تكريم المناصرة في مدينة بوردو الفرنسية بتاريخ 29/5/
1997( بعد قراءتي لديوان رذاذ اللغة ) لعز الدين المناصرة المترجم إلى
الفرنسية أعلن أنه لا يقلُّ أهمية عن شعراء فرنسا العظام في النصف الثاني
من القرن العشرين

تطوع المناصير في صفوف الثورة الفلسطينية  بالتوازي مع عمله في المجال
الثقافي كمحرر ثقافي لمجلة ” فلسطين الثورة ” وسكرتير تحرير ” مجلة شؤون
فلسطينية ” التابعة لمركز الأبحاث الفلسطيني وقد ناضل وكافح ضدَ إسرائيل
والمتأسرلين وكان الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل البندقية وخاض
المعارك في المرحلة اللبنانية بين اعوام 1972 ــ  1982 حيث انتمى في
بداياته إلى حركة القوميين العرب ثم أصبح عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير
فلسطين وكان مقرباً من حركة فتح وقد تلقى دورة عسكرية في جامعة القاهرة
صيف 1967 وثانية في بيروت عام 1975 وانتخب عضوا في قيادة جبهة جنوب بيروت
للقوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة عام 1976 كما اسس وادار (مدرسة
أبناء وبنات مخيم تل الزعتر) في بلدة الدامور بتكليف شخصي من ياسر عرفات

كما شارك في معارك بيروت عام 1982 وعمل مديرا لتحرير جريدة المعركة خلال
الحصار وكان عضو منتخب في حركة الإصلاح الديمقراطي الفلسطيني في عمان عام
1994 وشغل منصب مدير البرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية عام 1970 وهو
مؤسس ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القدس المفتوحة حيث كان
آخر موقع له في منظمة التحرير الفلسطينية كما ساهم في تأسيس كلية الآداب
والفنون في جامعة فيلادلفيا وأسس ايضا قسم الأدب المقارن في جامعة
قسنطينه بالجزائر عام1983

أُحيل إلى التقاعد عام 2017 بعد تجاوزه سن السبعين ولم يكن قريبا من
القيادة الفلسطينية الحالية ولا السلطة الوطنية فيما بعد وقد ظل معارضا
لمواقفها السياسية ونهجها وقد اختلفت مع الشاعر الراحل محمود درويش بعد
صداقة طويلة الامد في بعض المحطات حول ازدواجية موقفه السياسي وطبيعة
الحوار مع المثقفين الإسرائيليين ومنذ عام 1994 أصبح مثقفاً مستقلاً  في
إطار منظمة التحرير الفلسطينية وكان قد أنهى علاقته الوظيفية بجامعة
القدس المفتوحة عام 1994 بعد نقلها إلى فلسطين لأنه كان ممنوعاً من دخول
مسقط رأسه حتى وفاته

أُنجزت ثلاثة أفلام سينمائية عن حياته الشخصية الاول الفيلم البلغاري
أنتظر طلوع الفجر للمخرج التونسي يوسف دربال عام 1979 والثاني الفيلم
الجزائري الشاعر المناصرة للمخرج الجزائري حسين راحم 2004 والفيلم
الأردني المناصرة سيرة ثقافية  للمخرج الأردني، فيصل الزعبي  2006

المناصرة يعتبر رمزا من رموز الثقافة الوطنية الفلسطينية المقاومة
وواحدا من أعلام الشعر العربي المعاصر كان مناضلا صلبا وشاعرا مجددا
وناقدا كبيرا ساهم في تجديد الخطاب الشعري العربي وقد ترك إرثا ثقافيا
مهما خلال مسيرة حياته الحافلة بالعطاء والزاخرة بالإنجازات في الحفاظ
على الهوية الثقافية العربية والفلسطينية التي قدمها خلال شعره بصورة
رائدة ولافتة

ولا يفوتنا التذكير والاشادة بتجربة  المناصرة الإعلامية التي قدمها من
خلال البرامج الثقافية المتنوعة والتي كانت محطة مهمة في الكشف عن العديد
من المواهب والمبدعين اضافة الى تجربته الفاعلة في الصحافة الأردنية
والعربية وهو صاحب اروع القصائد ” بالأخضر كفناه ” و” جفرا ” و” عنب
الخليل ” و”الخروج من البحر الميت” و”مذكرات البحر الميت” بالاضافة الى
سلسة طويلة من القصائد والأعمال الأدبية الشهيرة والمميزة التي سطّر
حروفها وكلماتها  بضمير حي لتصبح خالدة في وجدان كل فلسطيني وعربي وقد
حاز المناصير على العدد من الجوائز التقديرية والتكريمية منها جائزة
الدولة التقديرية بالأردن ووسام القدس وجائزة غالب هلسا وجائزة سيف كنعان
وجائزة القدس التي يمنحها اتحاد الكتاب العرب

لقد كان الراحل المناصرة يمسك سلاحه كـ “سمفونية” يطلق منها رصاصات
“الشعر” ليشعل حماس أبطال المقاومة الشعبية وكلما اشتد النزال أصابت
كلماته صدور المقاتلين الأبطال ليثخنوا عدوهم الما وجراح وقتل ولا زال
الكثيرون من متابعيه يستذكرون اقواله المغبرة على سبيل المثال لا الحصر (
سأواصل ثقافة المقاومة حتى الرحيل فإما إلى القبر وإما إلى فلسطين )
وقوله ( لو اعترف العالم العربي سأظل انا الهندي الأحمر الأخير فلن أعترف
حتى أموت بشرعية إسرائيل ) لقد مات المناصرة عال الجبين مرفوع الرأس كما
كان يقول في قصيدته المؤثرة “الباب إذا هبت الريح ”

اخيرا ان من ابسط  حقوق عز الدين المناصرة علينا جميعا ان بذل الجهد
الصادق لتضمين سيرته ومسيرته وإرثه الادبي والمعرفي في المناهج الدراسية
المستقبلية كي تنهل منه الأجيال الفلسطينية والعربية ومواصلة حمل رسالته
وإن يطلق اسمه على الميادين الفلسطينية والعربية والصديقة

سنفتقدك كثيرا يا أبا كرمل رحمك الله وعفر لك واسكنك الجنة والعزاء
الحار والصادق لعائلته الصغيرة والكبيرة وإنا لله وإنا إليه راجعون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.