عودة سيف الاسلام القذافي وملامح الثورة المضادة


مهدي مبارك عبدالله

=

بقلم /  مهدي مبارك عبد الله

الوضع الحالي في ليبيا بالغ السوء والتعقيد لحد محزن زد على ذلك حالة الانهِيار التي تعيشها ليبيا بعد عشر سنوات على الثورة وفشل الدول الغربية التي دعمتها وخاصةً إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وحكومتي بريطانيا وفرنسا اللتان أعطتا الضوء الأخضر لقاذفات حلف الناتو للتدخل عسكريا لإسقاط النظام وتسليم العقيد القذافي للثوار لإعدامه بطريقةٍ بشعة والتمثيل بجثمانه وفي المحصلة الفشل في تهيئة البديل الأفضل بعده

بعد عشر سنوات من الاختفاء ظُنَ البعض أنه ميت إلى درجة أن صحيفة العنوان المقربة من الجنرال حفتر زعمت أنه توفي بمرض السل في سجنه قبل إعلان إطلاق سراحه في حزيران 2017 من قبل كتيبة أبوبكر الصديق والتي كانت تحتجزه منذ 2011 في مدينة الزنتان جنوب غرب طرابلس

قبل ايام قليلة ظهر سيف الإسلام القذافي الذي لا زال يحظى باهتمام وسائل الإعلام الأجنبيّة والقارئ العربي والعالمي مجددا في لقاء مطول أجراه معه مراسل صحيفة النيويورك تايمز خلق المفاجأة ورسم الحدث الذي لم يقتصر على ظهوره المباغت فقط بل شمل ايضا إعلانه نيته الصريحة بالرجوع إلى عرش أبيه كـ ( ولي للعهد ) عبر صناديق انتخابات رئاسية تكافح البلاد لسنوات من أجل إجرائها ولكن بلا جدوى

سيف الإسلام نجل الرئيس الراحل معمر القذافي الذي حكم ليبيا لأكثر من 42عام قبل ان يخلعه الشعب الليبي بثورة دموية في شباط عام 2011 في إطار ما سمي في حينها بثورات الربيع العربي كان في عهد والده يقدم نفسه على أنه الطرف الأكثر براغماتية والموكلة له مهمة الحلول المعقدة يحاول اليوم استعادة الزخم القديم الذي تبخر مع الوقت سيما بعد ظهوره الأخير واعلانه نيته الترشح لاستعادة كرسي ابيه

يأتي كل ذلك متزامناً مع نكوص وافول نجم قائد الثَّورة الليبية الجنرال الانقلابي خليفة حفتر المدعوم إماراتياً وبما يعيد السؤال للاذهان حول ما إذا كان ظهور سيف الإسلام قلب أوراق الجنرال أم سيسحب من تحته البساط ليقود ( انقلابه المضاد على الثورة ) بعدما قضى فترة غياب طويلة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط وعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوى السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم ( الحركة الخضراء ) الذي يعتبر عرفيا اميرها

بصراحته المعتادة وجراءته المعروفة وصف سيف الاسلام السياسيون في المشهد الليبي بانهم لم يقدموا للشعب شيئاً غير المعاناة والخراب والضياع وان الوضع القائم يزداد سوء كل يوم وقد حان وقت ( الرجوع إلى الماضي ) وهو الشعار المعبر الذي اختاره لحملته الرئاسية للانتخابية المقبلة كما انه يعتبر أن البلاد مفقودة وحركته السياسية هي التي ستعيدها من ايدي الذين اغتصبوها وأذلوها وسرقوا اموال وأمن ومستقبل الليبيين دون ان يحدد جهة بعيها ) حيث لا مقومات للحياة ولا يوجد مواد تموينية ولا وقود ولا خبز )

في الواقع تواجه سيفَ الإسلام القذافي الذي حكم بالإعدام ولا زال يحلم بالرئاسة عقبات كثيرة من أجل تحقيق طموحه إحداها أنه مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية ارتكابه جرائم ضد الإنسانية بسبب دوره في قمع المحتجين والمعارضين عام 2011 رغم انه لم يَقم بأيّ دور عسكري ولم يتزعم اي كتيبة وربما تكون هذه الورقة الأقوى في هذا المِلَف رغم أنّ دوَلًا عديدةً بينها الولايات المتحدة لا تَعتَرِف بهذه المحكمة وأحكامها

كما انه سبق له ان حوكم في دعوى قضائية أخرى في طرابلس عام 2015 قضت بإدانته والحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص الا انه يؤكد دائما بقدرته وثقته على تخطِّي تلك المسائل القانونية إذا اختارته أغلبية الشعب الليبي ليكون قائداً لهم خاصة بعدما بات الآن حرا طليقًا مُنذ الإفراج عنه وإنّ معظم حراسه ( من ميليشيا الزنتان الذين اعتقلوه ) باتوا أصدقاءه وفي صفه

طوال فترة غيابه كان سيف الإسلام القذافي محتجَزاً في منطقة الزنتان وهو يرى كيف يشعر الليبيون بالإحباط الشديد لدرجة أنهم باتوا ينظرون الى الماضي بشوق ويشعرون بالحنين إلى عهد والده القذافي والكثيرين منهم يندمون على الإطاحة بنظامه بالمقارنة مع الأوضاع الحالية السيئة وانهم واثقون بان سيف الاسلام يملك طُموحات سياسية للعودة إلى السلطة من أجل اعادة إحياء الوحدة المفقودة في ليبيا وانهاء مسيرة الفوضى وانعدام الأمن وهذا بدوره قد يهيئ له لفرصة الكبيرة ليستعيد ما فقده على المدى البعيد

ليست هذه أول مرة يدور الحديث فيها عن ترشح سيف الإسلام القذافي لرئاسة ليبيا فقبل ذلك في سنة 2018 عقد مؤتمر لمؤيدي نجل الرئيس السابق لإعلان تلك النية فيما شعبية سيف الإسلام تستمَدّ من مشاعر الحنين إلى حكم أبيه وما تَوفَّر فيه من أمنٍ واستِقرار وتمتع بثروات البِلاد النفطية ووضع ليبيا بقوة على خريطة العالم خاصةً في القارة الإفريقية وهو شعور يزداد انتشاراً في ليبيا وفي المنطقة كلها كما أن كثيراً من الليبيين يعتبرون عودته هي السبيل إلى إغلاق الباب على عقد من الزمن ضاع هدراً مع أنهم لا يعرفون على وجه التحديد شكل المستقبل الذي قد يحمله لهم هذا التفكير

في حديث إعلامي سابق صرح أحمد قذاف الدم أحد أكثر الرجال المقربين سابقاً من معمر القذافي حيث تَكلم عن امكانية ( اكتساح سيف الإسلام القذافي للانتخابات إذا ما تَرشح ) لكونه يحظى بدعم خارجي من بعض الدول وأن الروس تحديدا يعتقدون أنه سيفوز بالانتخابات وتكاد تكون روسيا الدولة الوحيدة التي استقبلت ممثلين بشكل رسمي وعلني عمن أسمتهم بـ “حركة سيف الإسلام القذافي” وعلى رأسهم أبو شريدة الذي ترشح فيما بعد لعضوية المجلس الرئاسي

على الرغم ان روسيا هي التي تقف وراء دعم حفتر سياسياً وعسكرياً الا انها تجد اليوم في سيف الإسلام وجهاً جديداً لتحقيق مطامحها وتثق بقدرته على قيادة ثورة مضادة قد تدعمها من أجل مصالحها وربما يرى ايضا المصريون والفرنسيون والإماراتيون نفس الشيء ويدفعون بسيف الإسلام قائداً جديداً وكجناح يحارب للإجهاض على الثورة الليبية ويحلم بإعادة ابيه في صورته لحكم البلاد ولكن بخلاف ما كان فيه من عيوب الديكتاتوريّة وغِياب الحريات ومصادرة الرأي الآخر وعدم وجود دولة مؤسسات وعدالة اجتماعية

مِن الإنصاف القول إنّ سيف الإسلام القذافي الذي خَسِر ثلاثة من أشقائه في حرب الناتو وحُلفائه في ليبيا حاول عندما كان مرَشّحا لخِلافة والده أن يُجري إصلاحات ديمقراطية واقتصادية وسياسيّة في البِلاد وتواصل مع معظم الشخصيات المُعارضة وأفرج عن عشرات المعتَقلين السياسيين وفتح أبواب البِلاد أمام عودة المنفيين واستَوعب بعضهم في مؤسّسات الدولة ولكنّ مشروعه “الإصلاحي” ظلّ يواجِه عقبات عديدة بسبب معارضة والده والمجموعة المحيطة به ولهذا كانت جاءت ثِماره محدودة

من اهم الإيجابيّات الي تساهم في عودة سيف الاسلام للحكم فشَل الثوار وداعميهم في تقديم البديل النموذجي لحكم القذافي على مدى العشر سنوات الماضية واستمرار الاقتِتال الدّاخلي بينهم للوصول إلى الحكم وحالة التفَتت والانقسام الذي تعيشه ليبيا واستِفحال الفساد ونهب مِئات المِليارات من أموال الشّعب الليبي وفوضى السلاح والميليشيات كلها عوامل تمَهّد الطّريق أمام القذافي الصغير للعودة إلى الحكم إذا سمِح له بخوض الانتِخابات الرئاسيّة المستقبليّة خاصةً في ظِل غِياب أي ( شخصيّة كاريزميّة ) مُنافسة يمكِن أن تقنِع الشعب الليبي بأنها قادرة على تَوحيد البِلاد والنهوض بها وتلبية مطالب شعبها المشروعة ولا يجب هنا أن ننسى أن سيف الاسلام ما زال يحظى بدَعمٍ قبليّ وافر والقبيلة عامِل مُهِم في التوازنات داخل ليبيا

الجميع يقول ليبيا ينبغي ان تكون اليوم لكل الليبيين الوطنيين والمخلصين الذين يرغبون في إعادة بنائها استنادا على مبدأ الحق والعدل إضافة إلى تشييد دولة المؤسسات والقانون وهذا يعني ضرورة امتلاكها لدستور وطني وديمقراطي وشرعي مبني على مبدئ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحرية الصحافة واتساع مساحة التعبير وبناء اقتصاد وطني يقوم في الاساس على القطاع العام بعد تنظيفه وإعادة تشييده وتنظيمه وكذلك القطاع الخاص الذي يجب ان تعطى له المبادرة ليلعب دوراً فاعلا في تنمية الاقتصاد الوطني

ان تمسك سيف الإسلام بمثل هذا البرنامج سيعزز موقعه السياسي وسينقله إلى مكان من يحمل مشروعا متكاملا للإصلاح الوطني وهذا بدوره سيفرش الأرض أمامه للحصول على شرعية وطنية أساسها التضامن والتلاقي الشعبي على برنامجه الأمر الذي سيتيح له فرصة للحصول على شرعية دستورية تمكنه من المنافسة على انتخابات رئاسة الدولة بكل ثقة وقوة

يمتلك سيف الإسلام بعض نقاط القوة لصالحه أبرزها استمرار ولاء عدة قبائل لوالده خاصة تلك الواقعة على المحور الممتد من سرت شرق طرابلس مرورا ببني وليد جنوب شرق طرابلس وصولا إلى براك الشاطئ جنوب طرابلس حيث تقطن هذه المناطق قبائل ( القذاذفة والورفلة والمقارحة ) الأكثر ولاءً لنظام القذافي بالإضافة إلى قبائل ورشفانة جنوب طرابلس وبعض قبائل الجبل الغربي مثل الصيعان والعربان في المقابل يخشى الكثير من الليبيون الذين شاركوا في ثورة 17 فبراير 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي أن ينتقم منهم نجله سيف الإسلام بمجرد وصوله إلى الرئاسة لذلك من المستبعد أن يسمحوا له بالترشح للرئاسة المقبلة لكن قد يسمحوا بدخول أنصاره البرلمان القادم

يطمح أنصار النظام الليبي السابق العودة مجددا إلى الحكم من بوابة المصالحة الوطنية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية المرتقبة نهاية 2021 مع العلم بان رئيس الحكومة المكلف ( عبد الحميد دبيبة ) كان مقربا من سيف الإسلام لكنه انحاز إلى الثورة وساهم في تمويل قوات الحكومة الليبية في مواجهة مليشيات حفتر وهو لا يعارض ترشيح سيف الاسلام ولكن هل يساعده على الترشح للرئاسة ناهيك عن احتفاظ ابن عم القذافي أحمد قذاف الدم بثروة مالية كبيرة تسمح له بتمويل مشروع العودة إلى السلطة

هناك من يراهن على أن ( تيار ليبيا المستقبل ) الذي يقوده دبيبة ليس سوى استمرارا لمشروع ( ليبيا الغد ) الذي أطلقه سيف الإسلام في 2006 وكان حينها دبيبة أحد أركان هذا المخطط الإصلاحي للنظام من الداخل والهادف لتطوير البلاد في حينه

مرور 10 سنوات على الثورة الليبية لم يشفع لسيف الإسلام وأنصاره أمام الإدارة الأمريكية الجديدة حيث أبلغ الرئيس جو بايدن في وقت سابق الكونغرس بقرار تمديد العقوبات لعام آخر ضد أبناء وأقارب معمر القذافي وشخصيات مرتبطة بهم وتشمل العقوبات الأمريكية المتخذة ضد سيف الإسلام وأنصاره اتخاذ تدابير لمنع إساءة استخدام الأموال وغيرها ما يعني تجريد العائلة أو ما تبقى منها من أذرعها المالية والتي قدرتها وسائل إعلام بالمليارات وهو ما ينفيه أنصارها وهذا الموقف الأمريكي المتجدد من سيف الإسلام وإخوته قد يعيق طريقه نحو السلطة رغم الدعم الروسي الكبير والواضح

تترقب ليبيا نهاية العام لأجراء انتخاباتها الرئاسية في واقع تعب فيه الليبيون من دوامة الحرب المستمرة التي دخلت فيها بلادهم منذ أن ثاروا على رئيسها السابق معمر القذافي قبل عقد من الزمان فيما العديد منهم يستبشرون بعودة المسار السياسي السلمي بعد إجرائها روسيا اعلنت مبكرا اصطفافها خلف ابن العقيد في الانتخابات المقبلة المزمع عقدها في 24 كانون الأول القادم والذي رأى فيه بوتين ضمن مناورته الأخيرة الورقة الأنسب لاستمرار تدخل موسكو سياسياً وعسكرياً في أغنى بلد بشمال إفريقيا من ناحية موارده النفطية وبالفعل اصبحت روسيا مؤخرا تضغط على المشير خليفة حفتر لدعم خصمه سيف الإسلام القذافي الذي ترى فيه مرشحها الذي لن يقهر ولن يفشل في الوصول الى رئاسة البلاد

قبل الختام باختِصارٍ شديد نقول ان بوتين الذي أفزعته مقاطع إعدام معمر القذافي يعتبر ليبيا قضية شخصيَّة بالنسبة إليه واذا ما تمكن من إعادة القذافي الابن إلى حكم ليبيا فذلك يعني أن روسيا قادرة على تمزيق كل مخططات الغرب الأكثر رعونة خاصة وان خطته تلك تجد القبول لدى القاهرة وهي تخدم مصالح إيطاليا الاقتصادية لكنها لا زالت تلقى المعارضة الشديدة من قبل الامارات وفرنسا الداعمين الرئيسيين للجنرال المتهالك حفتر

رغم انه لم يعلن إلى حد الآن أي من الفرقاء الليبيين نيته الترشح للرئاسة القادمة الا ان أمام سيف الإسلام القذافي طريق طويل لتَحقيق طُموحاته السياسية والعودة إلى سدة الحكم مجددا فهو لا يزال مطلوبا للعدالة الدولية بارتكابه جرائم حرب وقت الثورة الليبية الا انه بطموحه العظيم وحسن تدبيره يحاول استثمار التذمر الشعبي من الحرب المستعرة في بلاده ليوسع نطاق شعبيته تحضيراً لفوزه في السباق الانتخابي القادم والله تعالى أعلى واعلم

mahdimubarak@gmail.com

شكرا لكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.