قواعد الحوار والمناقشة في المدارس الألمانية مع قطر الندى


الدكتور موفق العجلوني

=

بعثت لي الصديقة العراقية فاضلة قطر الندى صاحبة ثقافة رفيعة و دماثة عالية ونفس طيبة و خلق كريم تذكرني بخمسين قاعدة عن فن قبول الاختلاف والتعايش بين البشر و فنون النقاش و الحوار و قبول الاخر و هذه القواعد تدرس في المدارس الألمانية . و هنا عادت بي قطر الندي الى سنوات الندى والريحان والياسمين في جامعة دمشق العريقة والتي كانت تحتضن المئات من الطلبة الاردنيين في كافة الكليات من الطب والهندسة و الآداب و العلوم والتجارة و الحقوق و الشريعة ،  كنت طالباً في الجامعة وادرس اللغة الألمانية كلغة ثالثة الى جانب اللغة الإنجليزية والفرنسية . نعم هذه القواعد تدرس في المدارس الألمانية. وهذه القواعد ليست غريبة عن لغتنا وديننا و عاداتنا و تقاليدنا. لماذا نسيناها او تناسيناها وهي من صلب ديننا وعاداتنا وتقاليدنا.

 

من أهم القضايا المثارة اليوم في الأوساط والمنتديات العلمية والثقافية، قضية الحوار و خاصة بين الأديان، ولا شك أن قضية الحوار تحتل مساحة كبيرة من اهتمام المفكرين والعلماء في خريطة الفكر المعاصر عالميا وإسلاميا هذا من جانب ، فإنها من جانب آخر من أهم الموضوعات الدقيقة والشائكة والمعقدة التي كثرت فيها الأقوال وتعددت حولها الآراء، وتباينت في جزئياتها وتفاصيلها .

 

وبالتالي تعددت الأحاديث والاقوال والكتابات حول الحوار والقضايا المتصلة به، فهنالك الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والباب مفتوح للمزيد. وجدت نفسي بتواضع أبحث عن أصول للحوار مع الآخر في القرآن الكريم، والضوابط لهذا الحوار. و لا بد ان نرفع آيات الشكر والتقدير لصاحب السمو الملكي الأمير الحسن حفظه الله رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية والذي تم تأسيسه عام ١٩٩٤ تحت رعاية سموه ، ويعد المعهد منظمة غير حكومية لا تهدف للربح، حيث يمثل حاضنة للدراسات متعددة التخصصات حول قضايا حوار الأديان . و قد سبق ان حاز المعهد على جائزة تميز وتقدير من مركز الدوحة لحوار الأديان خلال المنتدى العاشر لحوار الأديان الذي اختتم أعماله في العاصمة القطرية الدوحة .

  

القرآن والسنة هما أساس الإسلام ومنطلقة، وكل أمر في هذا الدين، صغيرا كان أم كبيرا، لابد أن يبدأ منه ويعود إليه. فمفهوم الحوار في اللغة من “الحور “، وهو الرجوع عن الشيء إلى الشيء. و معنى الحوار في اللغة : تراجع الكلام وفي لسان العرب : وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة وقال الراغب الأصفهاني : المحاورة والحوار المراودة في الكلام ومنه التحاور.وقد وردت المعاني المذكورة لكلمة الحوار في سياق الآيات الكريمة التي تضمنت مادة “حور “.

 

     قال تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال الإمام القرطبي في تفسيره للآية: أي: لن يرجع حيًّا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. فالحور في كلام العرب الرجوع . وقـال تعـالى : (“قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”) قيل في تفسير الآية: تراجعكما أي في الكلام.

 

وقال تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) قيل في تفسير هذه الآية: أي يراجعه في الكلام ويجاوبه، والمحاورة المجاوبة، والتحاور: التجاوب وقد جاءت مادة الحور في الأحاديث النبوية الشريفة بمعنى الرجوع، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” من دعا رجلا بالكفر أو قال : عدو الله وليس كذلك، إلا حار عليه أي رجع عليه الكفر .

 

     وقد ورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من ” الحَوْر بعد الكوْر” ومعنى الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة. وقد اتضح أن المعنى اللغوي لكلمة الحوار يدور حول المراجعة في الكلام بين شخصين أو طرفين أو أكثر، والمحاورة هي تداول الكلام بين طرفين أو أطراف.

 

أما التعريف الاصطلاحي للحوار فقريب من معناه اللغوي، وقد عُرّف بأنه: مراجعة الكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة وعُرّف بأن الحوار: مناقشة بين طرفين أو أطـراف، يُقصد بها تصحيح كلام، أو إظهار حجة، وإثبات حق، ودفع شبهة، ورد الفـاسد من القول والرأي.

 

ومما قيل في تعريف الحوار: إنه محادثة بين شخصين أو فريقين حول موضوع محدد، لكل منهما وجهة نظر خاصة به، هدفها الوصول إلى الحقيقة، أو إلى أكبر قدر ممكن من تطابق وجهات النظر، بعيدا عن الخصومة أو التعصب، بطريقة تعتمد على العلم والعقل، مع استعداد كلا الطرفين لقبول الحقيقة، ولو ظهرت على يد الطرف الآخر.

 

  ويتبين من هذه التعريفات أن المحاورة هي تجاذب الكلام بين المختلفين، وما أضافه العلماء في تعريفه من شروط إنما هي ضوابط أخلاقية يفترض توفرها في الحوار ليكون مثمرا ومجديا وقيل: الحوار هو تبادل المعلومات والأفكار والآراء، سواء كانت تبادلا رسميا أم غير رسمي، مكتوبا أم شفويا، وينعقد الحوار بمجرد التعرف على وجهات نظر الآخرين وتأملها وتقويمها والتعليق عليها.

 

ويمكن أن نعرف الحوار بأنه تبادل للرأي والفكر بين طرفين أو أطراف وفق ضوابط محددة لدوافع وأغراض مختلفة.

 

وقد حث القرآن الكريم في آيات كثيرة على الحوار الهادف البناء مع غير المسلمين، خاصة أهل الكتاب، لبيان الحق وإزالة الإبهام والغموض حول القضايا المختلفة فيها. قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) فهذه الآية الكريمة ونظائرها تشكل الأرضية الصلبة التي يمكن تأسيس الحوار عليها للوصول إلى الحق.

 

ومن يتدبر الآيات القرآنية المتعلقة بالحوار يجد بكل وضوح أن القرآن الكريم قد تناول القضايا الأساسية في الحوار، مثل: أسباب الحوار ودوافعه وأغراضه وأنواعه، وأصناف المحاورين، وأخلاقيات الحوار ودائرته وأصوله وضوابطه، وما إلى ذلك، ومن يتأمل تلك الآيات يخرج برؤية قرآنية واضحة حول الحوار.

 

هل نسينا الآيات القرآنية  الكريمة والاحاديث النوية الشريفة واقوال سيدنا المسيح عليه السلام في الحوار و النقاش واحترام الاخر : ادبني ربي فاحسن تأديبي ، و انك لعلى خلق عظيم ، و لو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، لا تكن امعه ، عامل الناس بخلق حسن اتبع السيئة الحسنة تمحوها ، و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا ، لكم دينكم و لي دين ، و لا يغتب بعضكم بعض ، لا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث ليالي فيعرض هذا و يعرض هذا و خيرهما الذي يبدأ بالسلام ، يا أيها الذين امنوا انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم ، عاشر الناس بخلق حسن ، لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتك حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .

 

 

  من الأصول الثابتة في الإسلام الإيمان بأصل وحدة الأديان السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى منذ فجر تاريخ البشر على وجه المعمورة وكلف الأنبياء عليهم والسلام بتبليغها والدعوة إليها، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) .فالإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام من مستلزمات العقيدة الإسلامية، ولن يكون المسلم مسلما إذا لم يؤمن بالأنبياء عليهم السلام جميعا، ولاشك أن هذا الإيمان يشكل أساسا لتعامله مع الآخرين من أهل الكتاب، قال تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فأصل الإيمان برسالات الأنبياء السابقين في صورتها الحقيقية البعيدة عن التحريف والتبديل يشكل نقطة الانطلاق لدى المسلم في نظرته للآخر غير المسلم من أهل الكتاب وغيرهم والتحاور معهم.

 

ومن يحاور أتباع الأديان السماوية يجب أن يضع هذا الأصل نصب عينيه، فالأديان السماوية في أصولها الصحيحة ودعوتها إلى الإيمان بمبادئ الحق والخير والعدل واحدة، وكان الاختلاف في التفاصيل والجزئيات الفرعية التي اقتضتها مراعاة تطور البشرية وتقدمها العقلي والحضاري.

 

واختتم حديثي هنا دون التطرق للخمسين قاعدة التي تدرس في المدارس الألمانية في فن قبول الاختلاف والتعايش بين البشر وفنون النقاش والحوار وقبول الاخر. لأننني اعتقد جازماً إذا بحثنا عن هذه القواعد في ديننا وعاداتنا وتقاليدنا واعرافنا العربية لعثرنا على عشرات القواعد في فن قبول الاختلاف والتعايش بين البشر وفنون النقاش والحوار وقبول الاخر. فما علينا الا ان نبتسم وننظر لبعضنا بكل تقدير واحترام.

 

وأخيراً وليس اخراً، شكراً للسيدة قطر الندى ابنة ” ميسوپوتاميا” أولى مراكز الحضارة العالمية، كل التقدير والاحترام على اثارة شجوني بتناول قواعد المناقشة والحوار في ديننا وعاداتنا وتقاليدنا العربية الاصيلة.

 

muwaffaq@ajlouni.me

بقلم

السفير الدكتور موفق العجلوني

المدير العام

مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.