“كوفيد 19” ومقاربات العنف السياسي


د. سلام الربضي

د. سلام الربضي: مؤلف وباحث في العلاقات الدولية

 

العنف هو أحد الوسائل المستخدمة في السياسة وذلك بغض النظر عن مشروعيته وأخلاقيته الفلسفية وبعيداً عن جدليات نظرية العقد الاجتماعي أو الطبيعة البشرية، التي تتمحور حول الغريزة الإنسانية وصراع البقاء. وبالتالي يمكن القول إن حيثيات العلاقة بين العنف والسياسية تثير كثير من الإشكاليات، فمن الناحية التحليلية هنالك صعوبة في إمكانية الفصل الدقيق والواضح بين العنف والسياسة، وهذا مردود واقعياً إلى الخلفية الثقافية والايدولوجية التي من خلالها يمكن الحكم على فعل أو تصرف ما بكونه يندرج في خانة العنف السياسي أو العكس من ذلك. فمثلاً، قد يكون العنف السياسي المرتبط بمقاومة الاحتلال وفقاً لثقافة ما فعل إنساني وقانوني مشروع، وبالمقابل ذات الفعل قد يكون وفقاً لثقافة أخرى عمل غير مشروع يندرج في خانة الممارسات الإرهابية.

 

ومن الجدير ذكره في هذا الإطار، صعوبة تحديد وحصر القضايا والأفعال السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى القانونية، التي يمكن وصفها بأنها ثمثل عنف سياسي. فعلى سبيل المثال، إلى وقتنا الحاضر لا يوجد اتفاق عالمي حول تعريف شامل وواضح للعنف السياسي المرتبط بالإرهاب، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتعريف جريمة العدوان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، إذ ما يزال يحمل هذا التعريف في طياته الكثير من التفسيرات والاجتهادات. وفي هذا السياق المتعلق بإشكاليات مفهوم العنف السياسي تُطرح كثير من علامات الاستفهام والتي تتمحور حول:

 

مقاربة تصنيف العقوبات الاقتصادية التي تفرضها بعض الدول أو الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، فهل هي أفعال ووسائل سياسية عنيفة وغير إنسانية؟ أم هي عمل سياسي سيادي مشروع؟

كيفية تصنيف السياسات الإعلامية التي تشجع وتحرض على العنف، فهل هي تندرج في خانة التحريض على العنف السياسي ودعم الإرهاب؟ أم تندرج في خانة حرية التعبير؟

صعوبة تصنيف العنف السياسي من حيث مصدره سواء كان صادر عن دول أو أفراد أو منظمات غير حكومية، ناهيك عن صعوبة الفصل بين كل منهم؟

معايير تصنيف الفساد باعتبارة من أحد أخطر أشكال العنف السياسي بمفهومة المعاصر؟

جدلية تصنيف العنف المرتبط بالأمن الإنساني الشامل، كالعنف البيئي،الصحي،التكنولوجي،البيولوجي..الخ.

وانطلاقاً من علامات الاستفهام تلك، يبدو بات هنالك حاجة ماسة لتوضيح فكرة مفادها أن العنف السياسي ليس مشروطاً فقط بالارتباط بالعنف الجسدي أو العنف المادي الملموس، فقد يكون هنالك عنف اقتصادي وعنف ثقافي أشد وطأة وتأثير في السياسة. بالإضافة إلى ذلك، ما يزيد الأمور تعقيداً على المستوى الفلسفي والواقعي، أن معظم النظريات السياسية التي ترتكز في تحليلها على فرضية أن الدولة كمؤسسة سياسية (والتي تمتلك مشروعية العنف داخل حدودها وخارجها) هي الفاعل الرئيس على المسرح العالمي، تم تجاوزها بشكل قاطع مع تزايد نفوذ الأفراد والمنظمات غير الحكومية والشركات عبر الوطنية..الخ. كما أن معايير القوة نفسها قد تغيرت ولم تعد تقاس فقط بمدى القدرة على استخدام العنف الشرعي المتمثل بالسلطة السياسية، ولم تعد كذلك محصورة في الشكل التقليدي المرتبط بالقوة الاقتصادية والعسكرية الكلاسيكية.

 

ووفقاً لذلك وبناء على التطور في طبيعة القضايا الإنسانية المعاصرة، يجب العمل على إيجاد رؤية نقدية سياسية جديدة لكل ما يتعلق بالمعايير الذات صلة بكيفية فهم العنف السياسي بكافة أشكاله. ففي هذا الصدد تُلزمنا بما لا يدع أي مجال للشك، الإشكاليات الأخلاقية المرتبطة بقضايا التغير المناخي ومسألة البيئة وكل ما يتعلق بالثورة البيوتقنية والتلاعب بالجينات والذكاء الاصطناعي..الخ، بإعادة النظر بكثير من المفاهيم، خاصة مع وجود مصطلحات جديدة ترتبط بالعنف السياسي المعاصر، كالعنف البيئي والعنف التكنولوجي والعنف البيولوجي وعنف التحيز الخوارزمي..الخ.

 

وقد تكون من أكثر الأدلة سطوعاً على أهمية أيجاد رؤية نقدية جديدة لمفهوم العنف السياسي، هي تلك التطورات الحاصلة على صعيد الأمن الصحي العالمي الناتجة عن تداعيات انتشار جائحة كوفيد19 وما رافقها من مظاهر عنفية غير مألوفه ارتبطت بالقضايا الصحية(كتبادل الاتهامات حول أسباب حدوث الجائحة أو حروب الأقنعة والأجهزة الطبية..الخ)، والتي تؤكد على مدى التغيرات المستجدة على مستوى مفهوم ومعايير العنف السياسي.

 

وعلى نور ما تقدم يمكننا القول، أنه بالرغم وجود الكثير من المبادرات التي تحاول وضع رؤية نقدية منطقية حول كيفية مقاربة مفهوم العنف السياسي، ولكن للأسف فهي تقليدية وتمتاز بعطوبية عدم القدرة على وضع إطار فكري جديد لفهم الظواهر والممارسات المستجدة المرتبطة بفلسفة العنف السياسي، وكذلك تتجاهل إلى حد كبير معظم الإشكاليات والجدليات سالفة الذكر، إذ يبدو أنها ما تزال تدور في الفلك الكلاسيكي لعصر الحداثة الذي تم تجاوزه. فنحن حالياً في عصر ما بعد الحداثه وما بعد الحقيقة وما بعد الإنسانية، والذي أسقط كل المسلمات والبديهات، أنه عصر منهجية التشكيك والتفتيت التي نحتاجها على الرغم من كل ما تحمله من جدليات مؤشكلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.