لماذا تأخر تعيين امرأة مفتيةً شرعيةً ؟


مهدي مبارك عبدالله

بقلم  /مهدي مبارك عبد الله

في سابقة كانت الاولى من نوعها في الاردن واثنا توليه منصب المفتي العام للملكة عام 2019 اعلن الدكتور محمد الخلايلة وزيراً الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الحالي عن وجود خطة جدية لدى دائرة الإفتاء لتعيين أول امرأة مفتية شرعية وان هذه الوظيفة ستكون في دائرة الافتاء فقط ولن تعمم على كافة محافظات المملكة حيث يتم الإعداد لإجراء مسابقة من قبل مجلس الإفتاء لتعيين مفتيات أسوة بالرجال خاصة وانه لا يوجد أي موانع شرعية تحول دون تعيين امرأة بمنصب مفتي والتاريخ الإسلامي كان زاخرا بالعديد من السوابق والشواهد في مجال الإفتاء الشرعي وخير مثال على ذلك أمهات المؤمنين السيدة ( عائشة والسيدة نفيسة وغيرهن ) لكن بانتقال الخلايلة لمنصب الوزارة ظلت الفكرة والقرار حبيس الادراج ولم يتم مناقشته او التطرق اليه مرة اخرى حسب علمنا المتواضع

تصريح الدكتور الخلايلة في حينه قوبل بعاصفة كبيرة من الجدل الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ما بين مؤيدين اعتبروها خطوة نوعية متقدمة في الاتجاه الصحيح باعتبار الفتوى ليس قصراً على الذكور وانها ستعزز من تمكين المرأة وتكسر احتكار المشهد الديني والسلطة الدينية القائمة على الرجال فقط وقد طالب البعض بضرورة التغيير في الفكر الذكوري الجمعي المسيطر على المجتمع وانه من حق المرأة أن تتبوأ المناصب في الإفتاء

بعيدا عن مسألة النوع الاجتماعي والأعراف والتقاليد في اعتبارات التكوين البيولوجي والسيكولوجي للمرأة والتي تشكل عائق في طريق قيامها بمهام الإفتاء خاصة في ظل وجود نساء مؤهلات علميا ودينياً في الشريعة والفقه وأصوله قادرات عل شغل مثل هذا المنصب لتحقيق الموازنة في الكثير من الآراء الفقهية الخاصة بالمرأة في مجال الأحوال الشخصية فيما قال اخرون معارضون ومنتقدون أكثرهم ( عن جهل قاطع في الدين ) إن الخطوة تتعارض مع الإسلام وعبروا عن عدم رضاهم عنها باعتبارها ( حسب رأيهم ) تغيير ممنهج في ثوابت الدين ومخالف تماماً للشريعة الإسلامية والأعراف والعادات الاجتماعية الدارجة

وفي سياق التحليل معلوم ان الدين الإسلامي ينظر إلى وصف ( الإنسانية ) لا إلى الذكورة أو الأنوثة حيث قال الله تعالى ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) فالمرأة مخاطبة مع الرجل سواء بسواء بالتكاليف والحقوق والواجبات وهو ما أثبته الحديث النبوي الشريف ( النساء شقائق الرجال ) أي انهن نظائر الرجال وأمثالهم في الأخلاق والطباع والأحكام

كذلك فان الإسلام لا يفرق بين الرجال والنساء في ( العلم والفتيا ) وقد ذكر أهل العلم شروط المفتي ولم يذكروا من الشروط الذكورة و ( لا يعرف في هذا خلاف بينهم ) ولا يمنع الإسلام أحداً من أهل العلم رجلاً كان أم امرأة أن يفتي ويعلم الناس احكام دينهم وهنالك طائفة جليلة من نساء فاضلات فقيهات وعالمات ومفتيات كن عبر التباريح الاسلامي المجيد منارات شامخة الأمر الذي يدعو إلى طرح مجموعة من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء غياب المرأة الفقيهة عن واقع المجتمع المعاصر وعما إذا كانت الذكورة في الاعتقاد الخاطئ لا زالت شرطاً اساسيا من شروط الإفتاء والاجتهاد

ومما ينبغي في سياق الحديث التنبيه إلىه أن هناك فرقاً واضحا بين ( الفتوى والقضاء ) فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي وهذا لا يمنع منه أحد الا إذا كان غير أهلاً لذلك أما القضاء فقد بينت الأدلة الشرعية وجرى عليه عمل الأمة الإسلامية أن ( المرأة لا تتولى القضاء مطلقا )

وقد تحدثت سير التاريخ عن الصحابيات المفتيات في أمور الحياة اللواتي لم يقتصر إفتاؤهن على مسألة ( الحيض والعدة ) تحديدا كما انه لا ينبغي ان يكون عمل المرأة المتخصصة في الشريعة محدد بالنشاطات الدعوية والدروس الفقهية والأكاديمية لوجود مواقف ومستجدات أنثوية كثيرة تتطلب وجودها حفاظاً على خصوصية المرأة سيما وانها أعلم من الرجل في ما يخص قضاياها سواء من ناحية البيان أم من حيث ممارسة تلك المهمة مما يستدعي فتح الابواب والتشجيع لتهيئة طالبات علم شرعي يحملن على أكتافهن تنوير النساء والوفاء بمشكلاتهن دروساً وتأصيلاً وحلاً شرعياً

وبالتوازي اذا كانت شريعتنا السمحاء أثبتت حق المرأة في الاجتهاد وتقديم المشورة والنصيحة بما تراه صواباً من الرأي فأن حقها اولى أن تقوم بدور المُفية سواء أكانت الفتوى للنساء فقط أم للرجال والنساء معا فالذكورة ( نكرر ) ليست شرطاً في المفتي بل من شروطه المتفق عليها هي ( العدل والأمانة والعلم ) لأن الإفتاء معناه إظهار الفتوى من حيث الحكم الشرعي لها من خلال البحث والاجتهاد العلمي وكم من أحكام شرعية انفردت بها أم المؤمنين السيدة عائشة وخالفت فيها كبار الصحابة وكم من مرة لجأ كبار الصحابة إلى زوجات النبي للسؤال عن الأحكام الشرعية

وقد بين الامام النووي رحمه الله في تبيان شروط المفتي ان يكون ( مكلف ومسلم ومحل ثقةً ومأمون ومنزهاً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة وكذلك ان يكون فقيه النفس وسليم الذهن ورصين الفكر ومتيقظ وصحيح التصرف والاستنباط وكل ذلك سواء فيه ( الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس ) إذا كتب أو فُهمت إشارته

العجيب حتى اليوم انه لا زال البعض يعترض على تولي المرأة مناصب يظنها خاصة وحكر على الرجال بحجة ( القوامة للرجل ) دون فهم المعنى الدقيق للآية الكريمة ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ) بانها ليست عامة حيث جاءت مسؤولية النفقة والمعيشة والإشراف على أعمال البيت من حيث قدرة الرجل على تحمل هذه الواجبات تخفيفاً عن الزوجة لضمان حياة اسرية انسانية مستقرة وناجحة

لقد كان في هذه الأمة العظيمة على الدوام من قام بواجب التعليم والفتيا من النساء كما قام به من الرجال ورغم ان عدد النساء لا يمكن مقارنته بالرجال بسبب طبيعة الرجل لكن هذا لم يمنع من وجود نساء يقمن بمهمة التعليم والفتيا وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث كانت مقصد الرجال والنساء في الفتيا بسبب قربها من النبي صل الله عليه وسلم وذكائها وفطنتها حيث قال فيها عطاء بن أبي رباح ( كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً في العامة ) وقال هشام بن عروة فيها ايضا ( ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة ) وقد عد الامام ابن القيم الجوزية رحمه الله المكثرين من الفتيا وذكر منهم امهات المؤمنين ( عائشة وأم سلمة وأم عطية وصفية وحفصة وأم حبيبة ) رضوان الله وسلامه عليهن

وسوف نسوق هنا بعض ممن وصفهن الإمام الذهبي رحمه الله بالعلم والفقه في كتابه ( سيَر أعلام النبلاء ) توكيداً لما ذكرناه انفا ( صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الفقيهة والعالمة وأم الدرداء الصغرى السيدة العالمة الفقيهة والتي اشتهرت بالعلم والعمل والزهد ومعاذة بنت عبد الله أم الصهباء العدوية البصرية العالمة العابدة وبنت المحاملي العالمة الفقيهة المفتية التي كانت من ( أحفظ الناس للفقه ) وكريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم أم الكرام المرزوية الشيخة العالمة المسندة وعائشة بنت حسن بن إبراهيم الواعظة العالمة حيث كانت تعظ النساء وفاطمة بنت الأستاذ الزاهد أبي علي الدقاق أم البنين النيسابورية الشيخة العابدة العالمة والمقرئة والصالحة المعمرة وفاطمة بنت البغدادي أم البهاء الشيخة العالمة الواعظة مسندة أصبهان ) وغيرهن الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهن

نحن الآن في أشد الحاجة لعمل المرأة المؤهلة في هذا المجال للتوسع في البحث والتعمق العلمي ودراسة الجذور والأصول الفقهية فضلا عن الممارسة العملية في مجالس الدعاة وحلقات الذكر والتثقيف الذاتي لأن هنالك الكثير من القضايا الخاصة التي فرضت نفسها على ارض حياتنا وترغب أن تسأل عنها المرأة وتشعر بالحرج من السؤال فيها إلى الرجال

ولا بد قبل الختام مِن التنويه بأن معظم أحكام الشريعة الغراء يشترك فيها الرجال والنساء معاً بالتساوي وهذا يصل إلى 90 في المئة من العقيدة والفقه والأخلاق ثم يأتي الاختلاف بينهما في 10 في المئة لتأخذ المرأة 5 في المئة في ما يختص بها ويأخذ الرجل 5 في المئة في ما يتعلق به وهذا نابع أصلاً من الاختلاف الفطري لكل منهما

يذكر انه لم يسبق للمرأة الأردنية التي شغلت مختلف المواقع أن عملت بالإفتاء بالصفة الرسمية كما ان عدد العاملين في الإفتاء في المملكة يصل إلى حدود الأربعين جميعهم من الرجال وان هنالك شواغر في دائرة الافتاء يتم ملؤها بعد تقدم الدارسين لعلم الشريعة بامتحان نظري ومقابلة شخصية وفي المقابل هنالك الكثير من النساء متخصصات في مجالات العلم الشرعي وقادرات على التفوق والتميز واجتياز اختبارات الاهلية والكفاءة المطلوبة

mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.