منظومتنا التعليمية حالت دون وجود برامج تنموية
الدكتور رشيد عبّاس
البرامج التنموية المستدامة في جميع مجالاتها في الدول المنتجة والتي تلبي حاجات المجتمع بجميع فئاته, انبثقت بشكل مباشر من منظومة تعليمية شاملة ومتكاملة في تلك الدول, ولعل هذا ما يبرر اهتمام كثير من الدول في منظومتها التعليمة, وذلك من خلال تأسيس منظومتها التعليمية قبل أن تبدأ ببناء برامجها التنموية المستدامة.
برامج التنمية المستدامة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والتقني والبيئي ينبغي أن تنطلق بشكل مباشر من منظومة تعليمية نتاجاتها التعليمية مبنية على مفاهيم وانشطة اقتصادية واجتماعية وتقنية وبيئية يتم غرسها لدى الطلبة مع بداية مرحلة رياض الاطفال, وتنتهي بالتعليم الجامعي, مروراً بمرحلة التعليم المدرسي.
وبكل أمانة وموضوعية منظومتنا التعليمية في الأردن بدأت منذُ المئوية الأولى بمسيرة صحيحة وشاملة ومتكاملة آخذه بطريقها جميع المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والبيئية, ورسمت وقتها نتاجات وأهداف تعليمية انطلقت منها فيما بعد العديد من البرامج التنموية المستدامة التي ننعم بها إلى يومنا هذا, وللأسف الشديد بدأ التراجع الملحوظ في منظومتنا التعليمية مع بداية تسعينات القرن الماضي, وذلك نتيجة لتبني العديد من نماذج منظومات تعليمية لدول أخرى تختلف عنا كثيراً, الأمر الذي أدى إلى تشتت منظومتنا التعليمية وضياعها بين هذه النماذج والتي لا تتلاءم وفلسفتنا التربوية المبنية على الأسس الفكرية والوطنية والقومية والاجتماعية, وبالتالي فقدان بوصلتنا التربوية مع مطلع تسعينات القرن الماضي, والتي كان ينبغي أن ننطلق منها في بناء البرامج التنموية المستدامة.
ولعل الأسباب الحقيقية التي حالت بين منظومتنا التعليمية وبين بناء برامج تنموية مستدامة, يعود إلى سببين رئيسين أولهما: تراجع التخطيط الاستراتيجي للمنظومة التعليمية, فالمتتبع للمنظومة التعليمة يجد مع مطلع تسعينات القرن الماضي أن هناك غياب الشمولية والتكاملية في التخطيط الاستراتيجي للمنظومة التعليمية, ويجد أيضاً أن منظومتنا التعليمية أنتجت لنا وللأسف الشديد آلاف التخصصات التي لا تواكب متطلبات سوق العمل, واعطتنا مزيد من الخريجين والذي لا يمكن لنا أن نتنبأ بأعدادهم, وتوسعت في مسارات تعليمية تقاطعت مع بعضها البعض, وفتحت جامعات عملت على حساب الكم وليس على حساب النوع, وارسلت بعثات خارجية على مبدأ الترضية والمحسوبية وليس على مبدأ الحاجة والكفاءة.. إلى غير ذلك من ممارسات غير مخطط لها, كل ذلك حال دون بناء برامج تنموية جديدة مستدامة, وكان أيضاً معيقاً للبرامج التنموية الموجودة أصلاً.
وثانيهما: قصور نتاجات المنظومة التعليمية, فمع مطلع تسعينات القرن الماضي نجد أن نتاجات المنظومة التعليمية عانت من تخبط كبير في صياغة نتاجات وأهداف مستقبلية تحاكي متطلبات العصر وتقنياته, ونجد أيضاً أن نتاجات منظومتنا التعليمية بدءاً من مرحلة رياض الاطفال وانتهاءً بالتعليم الجامعي مروراً بمرحلة التعليم المدرسي, لا تتضمن بأي شكل من الاشكال نتاجات تعليمية فعلية مبنية على المجال الاقتصادي والاجتماعي والتقني والبيئي, وهذا بالضرورة يعني لنا أننا أمام خريجين يفتقروا إلى مفاهيم اقتصادية واجتماعية وتقنية وبيئية, الامر الذي أدى إلى عدم وجود رؤية ورسالة وقيم شاملة ومتكاملة لدى القائمين على منظومتنا التعليمية, وانعكس ذلك سلباً على بناء برامج تنمية مستدامة أو التعامل والتكيف معها.
منظومتنا التعليمية والحال هكذا, يصعب معها إجراء عمليات تنبؤ مستقبلية, وذلك لوجود تخبط في مسارات التعليم فيها, ووجود تذبذب في أعداد الخريجين فيها, كذلك لعدم وجود قاعدة بيانات محدّثة فيها, الأمر الذي أعاق بناء خطط تنطلق منها برامج تنموية مستدامة تواكب مستجدات العصر.
إن بناء برامج تنموية مستدامة تواكب مستجدات العصر, يتطلب منا جميعا تحرير منظومتنا التعليمية من حالة التراجع والجمود الموجودة حالياً, والوصول بها إلى حالة التخطيط الاستراتيجي, والذي ينبغي أن يجيب على سؤال من نوع: ماذا نريد من منظومتنا التعليمية؟
نعم, لم نجد جواباً لسؤال ماذا نريد من منظومتنا التعليمية؟ من نحو (30) وزيراً للتربية والتعليم منذُ أن تأسست وزارة المعارف سنة 1921م، ثم وزارة التربية والتعليم سنة 1956م, إلى يومنا هذا, مع غياب وزراء التخطيط الاستراتيجي في هذا المجال.
لدينا امتحان ثانوية عامة في منظومتنا التعليمية, للأسف الشديد هدفه فقط طرح آلاف الخريجين سنوياً, ويزجُ بهم في الجامعات الحكومية والخاصة.. حتى بات لدينا اليوم نحو نصف مليون خريج من كافة التخصصات لم يدخلوا بعد عجلة الانتاج!