أبي رحمه الله


نعيم محمد حسن

=

 

المرحوم  الحاج  (محمد حسن عليوة/أبو نبيه)

 

شتاءُ ألفٍ وتسعمايةٍ وسبعٍ وعشرين ميلادية، سَنَة ُالثَّلْجَةِ الكُبْرى كانت وما تزالُ  تُؤرَّخُ في أذهانِ الكبار… وقبلُها بعامٍ، وُلِــــدَ أبـــي؛ سنة ألفٍ وتسعماية وستٍ وعشرين ميلادية. ستةُ عشرةُ عاماً مضت على ولادتِهِ في أجواءٍ لا أعلَمُها ولكن قد أتخيَّلُها. ومن هنا أبدأُ حكايتي مع أبي رحِمَهُ الله.

كان أبي فتىً يافعاً وسيماً ذو شعرٍ ناعمٍ أنيقٍ، أمضى من عمُرِهِ ستةَ عشرةَ عاماً في أحضانِ بلدةٍ صغيرةٍ وادعةٍ وجميلةٍ جمالُها أيضاً جاء من اسمِها، عينٌ جَرَت (عنجرة) رغمَ أنني لمْ أكنْ آنذاك، لكن بالنسبةِ لأبي كان كلُّ ما يملِكُ في ذلك الوقتِ حضنُ والدتِهِ (كرمة محمد يوسف، رحمها الله تعالى) وأحضانُ البلدةِ التي عَشِقَها فَقَرَّرَ أن يدخلَ الجنديّةَ بعد أن أتمَّ الصفَّ الرَّابع فيما كانَ يسمَّى بالكتاتيبِ، ليتمكَّنَ من توفيرِ العيشِ الكريمِ لوالدتهِ ولعائلتهِ التي تحمل  مسؤولية رعايتها مبكراً.

دخلَ الجنديَّةَ وقتَها وكانَ يعرفُ أنَّ الجنديةَ هي التي تصنعُ الرّجالَ وهي منْ تحمي القريةَ الوادعةَ وهي أيضاً من ستحمي عائلتَهُ، لأنَّ الجنديَّةَ رمزٌ من رموزِ حمايةِ الوطن؛ شعباً وأرضاً.

فكان لا بدَّ مِنَ الرَّحيلِ على عَجلٍ والالتحاقِ بالجيشِ العربيّ، فكانَ الرَّحيلُ إلى عمَّانَ.  وقبلَ الرَّحيلِ، كانَ مشغول الذّهنِ مشغول القلبِ؛ خطَّطَّ وفكَّرَ، وقرر وخطبَ تلكَ الفتاة التي لمْ تتجاوز الثالثةَ عشرةَ من العمرِ؛ والدتي رحِمُها الله؛ شيخة حمد صالح عليوة.

ذهبَ إلى عمَّانَ؛ وفي تفكيرِهِ ووجدانِهِ: كيفَ يمكنُ له تركُ والدتِهِ ستةَ أشهرٍ كاملةٍ دون أن يراها أو يتصل بها،  إحساسُه هذا ولَّدَ عندَهُ شعوراً وتساؤلاً؛ كيفَ لهُ أن يكونَ في مكانينِ في آنٍ واحدٍ، فكَّرَ وفكَّرَ وفكَّرَ. وأخيراً قرَّرَ أن يتَّخذَ قراراً حكيماً منطقيَّاً وعقلانيَّاً كعادتِهِ رحمه الله، متوكلاً على الله سبحانه وتعالى فكان لهُ ما أرادَ.

انتظمَ الفتى ذو السّادسةَ عشرة في الجُنديَّةِ وأنهى التَّدريبَ العسكريّ الّذي لا أخالُهُ يقِلُّ عن مدةِ ستةِ أشهرٍ وكان يحمل الرَّقم العسكريّ(1761) فكان نِعْمَ الجنديُّ ونِعْمَ القائدُ المُبْدِعُ وتميَّزَ بِدماثَةِ خُلُقِهِ وحُسْنِ إدارتِهِ العسكرية وحِكْمَتِهِ، وتَدرَّجَ بالرُّتَبِ العسكريَّةِ المعهودةِ في أيّ جيشٍ في العالمِ. ولا أَخالُكَ عزيزي القارئ لا تَعْرِفُها، خاصّةً أولئك الذين خدموا ويخدمون في سِلكِ الجنديَّةِ في جيشِنا العربيّ، القوَّات المسلَّحة الأردنيّة حتى وصل رتبة عقيد. فكان نعم القائد الذي يشهد له كل من عاش معه أو تعايش أو زامله في العسكرية طيلة ثلاثين عام خدم بها أرض الوطن، بضفتيه الشرقية والغربية أنذاك، حتى أنه ذهب إلى لفربول عام 1946م في شمال غرب انجلترا في مهمة عسكرية لمدة ستة أشهر، عاد بعدها  إلى أرض الوطن مشتاقاً لترابه، وقريته التي خرج منها وفي ذهنه، هدفاً واحدا أن يكون جنديا عسكريا محباً لأهله وعشيرته، عازما أن  يخدم الوطن من خلال التحاقه بالجيش العربي الهاشمي الأردني.

أبــي رحمه الله تعالى (محمد حسن عليوة/أبو نبيه) أحَبَّ النّظامَ والتَّرتيبَ والأناقةَ في كافَّةِ جوانبِ حياتِهِ العسكريَّةِ والمدنيَّةِ. فخطَّ يدِهِ كان جميلاً أنيقاً في زمنٍ كانت فيه الأمّيَّةُ أمراً منتشراً وطبيعيّاً. إنَّهُ الفتى الذي كان حازماً ومُحِبَّاً لزملائِهِ؛ جنوداً وضبَّاطاً في آنٍ واحدٍ، منْضَبِطاً انضباطاً عسكريّاً قلَّ وجوده في تلك الأيّام.  كان لديهِ الطُّموح بأن يكونَ ضابطاً من ضبّاطِ الجيشِ العربيّ، فتساءلَ كيف لجنديٍّ أن يرتقيَ ليكونَ ضابطاً كبيراً في الجيشِ العربيّ. عَرَفَ السّرَّ فأصبح ضابطاً كبيراً في الجيشِ بفضلٍ منَ اللهِ وبحمدِهِ، معطاءاً متفانياً في خدمةِ الجيشِ العربيّ، حريصاً على مصلحةِ وطنِهِ، مُؤْمِناً مُرْضِياً لربّهِ.

 رَحــِـــــمَ اللــــّــــهُ أبـــــــــــــي وغفَرَ لهُ وجَعلَ قبرَهُ رَوْضةً من رياضِ الجنّةِ وجازاهُ بالإحسانِ إحساناً وبالسَّيئاتِ عَفْواً وغُفراناً ونظرَ إليهِ نظرةَ رضىً وبلَّغَهُ الفردوس الأعلى مع النَّبيّينَ والصّدّيقينَ والشُّهداء والصّالحين وحَسُنَ أولئكَ رفيقا.

يوم رحيله ويوم غادرنا لا أنساه أبدا؛ هو ذكرى مرور ثمان عشرةَ عاماً  الآن، على رحيله، رحمه الله الَّذي وافتهُ المنيَّة، فجرَ يومِ الأحدِ الواقع في السّادس من تمُّوز 2003، إثرَحادث سير مؤسف، وإنَّني إذ أستذكر هذا اليوم الأليم والحزين لأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتغمّد أبي بواسع رحمته داعياً الله أن يكون ذلك وفاءً لِمَن ربّاني صغيرا وعَلَّمني كبيرا، الّلهم ارحم أبي وأمّي وبَلّغْهُما منازلَ الشُّهداءِ وارحم جميع أموات المسلمين، الَّلهم آمين آمين آمين.

يتبع إن شاء الله في دفتر الذّكريات عن روحِ أبي رحمَهُ اللهُ تعالى.

amman1959@ymail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2 تعليقات

  1. نعيم محمد عليوه يقول

    العزيز محمود بيك الشريدة تحياتي لك الخالصة
    وارجو أن تكون بصحة وعافية وأشكر لك مشاركتي هذه الذكريات الطيبة والجميلة عن والدي رحمه الله تعالى . .
    رحم الله امواتنا وامواتكم أجمعين يا رب العالمين

    كما اشكر تفاعلكم الرائع… وارجو أن أنوه أن ما كتب هنا هو مقدمة مشروع كتاب أن شاء الله تعالى..عن حياة والدي رحمه الله تعالى وسيرته الذاتية….لتبقى ذكراه العطرة بإذن الله
    والترحم عليه خالدة عند ذريته وأقرباه وأحبائه وأصدقائه وزملائه الذين عاصروا شرف الخدمة العسكرية في الجيش العربي أنذاك…وما هذا العمل المقل إلا جزء يسير مما قدمه لنا والدي رحمه الله وطيب ثراه وذكراه أمين يا رب العالمين.

  2. محمود حسين الشريدة يقول

    رحم الله تعالى العقيد المتقاعد محمد حسن عليوه … احد المع ضباط سلاح التموين … وعلى الرغم من انني لم احضى بالخدمة في معيته ، إلا أنني عندما انتسبت للخدمة في سلاح التموين عام 1977م ، كان المرحوم ابو نبية قد احيل للتقاعد ، ولكن كان اسمة مضرب الامثال على السنة الضباط الذين خدوا معه ،… وكان الجميع يتحدث عنه بكل الرضى والمحبة …
    كيف لا وهو من جيل الضباط الذين تدربوا وتعلموا واكتسبوا الخبرة الادارية والقيادية من المع مدراء التموين المرحوم ابو الحكم الروسان … الذي تخرج على يدية نخبة من القادة الافذاذ في سلاح التموين ، منهم محمد حسن عليوة ، وحامد احمد ابو سيف ، ومطيع المعايطة ، ورياش حسين ، ومصطفى محمد عودة ، ومحمد عارف عبيدات ، وعبدالله المحادين ، ورضا الرواشدة وغيرهم …
    هذا الجيل الرائع من الضباط والقادة هم من قام على عاتقهم سلاح التموين ، ودربوا وعلموا كثير من ضباطه الافذاذ …
    اسال الله تعالى ان يتولى الذين رحلوا منهم بواسع رحمته … وان يحسن ختام من بقي منهم على قيد الحياة
    عقيد ركن تموين متقاعد / محمود حسين الشريدة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.