(أولئك مبّرّؤون مما يقولون )


رقية محمد القضاة

=

جيش النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يرتحل إلى المدينة بعد غزوة بني المصطلق، وذلك في شعبان عام خمس للهجرة ويدخل الرسول بجيشه المدينة لهلال رمضان المبارك من ذلك العام ،وحين أذن باللرحيل الى المدينة يحمل هودج عائشة أم المؤمنين ويوضع على جمل ولا يلتفت الرجال إلى خلوّه من صاحبته، التي خرجت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مجاهدة في سبيل الله، وقد ابتعدت عن موقع الجيش لبعض حاجتها، وتعود إلى المكان لتجده وقد خلا من الجيش، وتدرك أنّهم قد ارتحلوا وأنّهم سيفتقدونها ويرجعون إليها، فتلتف بعباءتها ويغلبها النوم،وتستيقظ على صوت يسترجع صاحبه قائلاً: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أظعينة رسول الله؟”، وينيخ النّاقة فتركبها عائدة إلى المدينة المنوّرة دون أن يكلمها بكلمة، وهناك في أوكار المنافقين ثمّة رجل موتور، في قلبه نار حقد دفين، وعلى عينيه غشاوة من بريق الذهب والخرز الذي كان ينظم تاجا لملكه قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، فهو يرى في محمد سالباً لملكه، ولا يراه نبياً مبعوثاً برحمة الله إلى العالمين، لقد علا صوت التاج في نفسه على صوت الحق والإيمان، فدخل في دوّامة النّفاق، وقعد للمؤمنين بالمرصاد، فهو مثبّط مكذّب مرجف، خوّاض في الأعراض بالبهتان، وحوله زمرة ممّن أعماهم الضّلال فساروا في ركاب زعيم النّفاق ” عبد الله بن أبيّ بن سلول”وعائشة تدخل المدينة على جمل صفوان بن المعطل – رضي الله عنه -، وابن سلول يراها فرصته لإلحاق الأذى بنبي الإسلام ودولة الإسلام، وينطلق فحيح لسانه الأفعواني يرجف في المدينة، وتهيم حشراته النافثة بالسمّ تقذف عائشة الطاهرة، وتتهمها بالفاحشة إفكاً وزوراً، وتنطلق الألسن الحاقدة بحديث الإفك، وتتبعها الألسن الخرقاء، تلك التي تتلقّف القول وتشيعه دون أن تمرّره على القلوب، أو أن تتريّث لتستيقن صدقها من كذبها، فتهلك دون أن تحسّ وتتردّى في مهاوي الكبائر دون شعورويبلغ الأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويتزامن الخوض فيه مع مرض عائشة الطاهرة وإقامتها في بيت والديها لحاجتها للرعاية، وهي غافلة لا تدري بما يتخوّض به المنافقون والمستغفلون على حد سواء، وتنكر من زوجها المحبّ المشفق جفوته وتشاغله عنها في مرضها، وما تدري بالحزن الذي يسكنه، وقد طعن فيها وهي أحب النّاس إليه، ويبلغها الأمر فتبكي وتتألم وترجو ربّها أن يبرأها، فهي تعلم أنّها بريئة وتوقن أن الله لا يرضى لها الظلم ولا لرسوله المذلّة، وتنتظر الطيّبة البراءة، وتترقّب المدينة ما ستنجلي عنه الفرية، ويعلو صدر بن سلول وينتفخ كبرياء وصلفاً ونفاقاً، وينفث سمّه في كل أرجاء المدينة وقد ظنّ أنها القاضية على محمد،ولكن هيهات لك أيها المأفون، فلتستمع إلى ما نزل فيك من القرآن، وقد وصمك إلى يوم القيامة بأنّك أفّاك أثيم: ( إنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّ لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم) فانكسرت شوكتك يا بن سلول، ولعنت في الدنياوالآخرة في كتاب الله.وهناك في بيت الصدّيق ترقد عائشة محمومة مكلومة الفؤاد، وقد أخبرتها أم مسطح بما يخوض به النّاس بشأنها، وتستنكر أم المؤمنين البريئة أن يتحدّث النّاس في مدينة رسول الله بالإفك عن زوجة نبيهم – صلى الله عليه وسلم -، فتقول “سبحان الله أو يتحدّث النّاس بهذا؟” أجل يتحدّث النّاس بهذا يا أم المؤمنين حين ينسون في لحظة ما أن يحتكموا إلى قلوبهم المؤمنة، وإلى قانون أخوّة الإسلام النبيل، حيث ينزل المرء أخيه بمنزلته ويظن به ما يظن بنفسه: ( لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين)يتحدّث النّاس بهذا حين لا يميّزون بين المؤمن والمنافق، وحين يتلقون الكلمات من المنافقين دون وعي ولا إنكار ولكنّ الله الذي يعلم ما يخفيه قلبك الطاهر وما تعلنه جوارحك البارّة النقيّة، ويعلم ما يحزن رسوله الكريم وهو يسأل أصحابه في شأنك، وكلّهم يراك ابنة الصدّيق وزوج رسول الله الطاهرة، وهاهو عمر يقول: ” يا رسول الله من زوّجكها؟ فيقول – صلى الله عليه وسلم-: ((الله)) قال عمر: أفتظنّ أنّ ربّك قد دلّس عليك فيها؟ (سبحانك هذا بهتان عظيم)، يعلم الله كل هذا وأكثر فينزّل فيك قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وما كنت ترين نفسك عند الله ذات شأن لينزل فيك قرآناً، ولكنّها رحمة الله وفضله وبراءتك تتنزل في سورة تحمل اسم الله المنير المشرق بالرحمة والعدل (النور)، (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) يا أمنا الطاهرة ابن سلول يعود اليوم من جديد يقول فيكِ ما قاله قبل قرون ونحن أبدا نبرؤ إلى الله مما يقولون، وأبدا نظل نقول فيكِ ما قاله ربنا في كتابه (الطيبات للطيبين) ورسول الله الطيّب وأنت الطيبة يا أم المؤمنين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.