إضاءات نقدية حول البراغماتية


مهنا نافع

=

عندما يغيب الضمير ويهمل الوجدان وتكبح الفطرة وتصبح المبادئ والأخلاق الرفيعة مجرد وسيلة تطبق بكبرى المتاجر فقط لكونها ستجلب المزيد من الزبائن، شأنها كبقية الوسائل التي لا ضير من استخدامها طالما ستبرر الوصول لأي من الغايات والمآرب، فالصدق كالكذب والعدل كالظلم والرفق كالعنف والبر كالفسق والنزاهة كالخساسة والشرف كالعار، والانتهازية كالإثار ، فكل المفردات ومرادفاتها سوف تتماثل مع أضدادها، ولم لا؟ طالما الهدف سيتحقق، وسيتم كسب ما يظن أنه من المنافع.

نهج يستتر وراء مفهوم الحلول العملية لقبول المتاح، ويهمل كل المفاهيم والمبادئ والقيم الاجتماعية وكل ما يتعلق بالجوانب الروحية، فلا اكتراث لأي تراث، ولا لتقدير لأي موروث أخلاقي كان أو معرفيا، وتغييب لكل الغيبيات، ولا قبولا لأي حقيقة مطلقة كانت أو نسبية، نهج ساد وقوي ولكنه عجز عن تفسير ميل المجتمعات لتعظيم عمل الخير أو الخوض بشرح ما لمعنى التضحية أو البطولة والفداء وغير ذلك من المصطلحات التي يحترمها ويجلها العامة من أفراد المجتمعات.

وأما عن مفهوم الحقيقة لديهم فمهما كانت فلا ترفض ولا تقبل لتبقى الضبابية تحوم حولها، ولا يمكن اعتبارها من المسلمات الثابتة حتى لو خضعت لأدواتهم بالتجربة والقياس، فإن تم ثبوت نفعها فسيتم قبولها، ولكن لا ضمان لثبات محتواها، فقد تتغير بتغير الظروف المحيطة بها، فالحقيقة تعتبر أهم ركنا من أركان هذا النهج الذي يطلق عليه البعض الفلسفة البراغماتية، أما الشيء الذي بمنتهى الغرابة فهو يدعونا أن لا نؤمن بأهمية أو ضرورة أي حقيقة إلا أن ثبت نفعها من خلال الأدوات المعتمدة لديهم، ولكن كيف لنا أن نؤمن ودون أي تردد بصحة ودقة تلك الأدوات، أليس هذا بمثابة الوصاية وبالتالي الهيمنة على الوعي العام للمجتمعات.

ثم جاءت ملامح نظريات دارون لتضع شيئا من صبغتها على هذا النهج، فهو يعتبر أنه كما تطورت أجسادنا كذلك تطورت أدمغتنا، وان الأفكار يجب أن تتأقلم مع الوضع الحالي الجديد الذي نحن فيه لتساعدنا للسير بمجريات المعيشة بطريقة سلسة ومريحة، وأنه لا بد للمجتمعات بمجرد تغيير الظروف المحيطة بها التأقلم واكتساب صفات جديدة تناسب هذا التغيير، والا الانقراض لتلك المجتمعات سيكون أمرا حتميا، وهذا قد يبدو للبعض فيه القليل من المنطق، ولكن من سيقرر أن هذه الحقائق والأفكار قابلة بالأصل للتغيير، فالفضيلة ستبقى فضيلة والنخوة والشجاعة وغيرهم سيبقون كذلك، ثم ما هو المعيار الذي سيضبط الحد الأعلى أو الأدنى لأي تغيير؟ أم الأمر لاحد له؟

نعلم أن أحد أسباب رواج هذا النهج الذي ينسب إرساء قواعده للفيلسوفين تشارلز بيرس ووليام جيمس في أواخر القرن التاسع عشر ليلقى رواجا كبيرا في الولايات المتحدة بالقرن العشرين نتيجة الظرف الخاص الذي حصل إبان وصول الملايين من المهاجرين الأوروبيين من مختلف الأعراق والمناطق وبخلفيات مختلفة إلى القارة الأمريكية الشمالية، فتم من خلاله نسف كل ما لديهم من خلفيات سابقة، مما جنبهم كل ما يتعلق بالجدل والخلاف الذي قد يؤدي لنشوء المزيد من الصراعات بالمجتمع لديهم، فتم تسويف وتحييد كل المثاليات، وتم إقناع الأغلبية للاتجاه فقط لما ظنوه نفعا لهم، هي تماما كحبة المسكن التي تهدئ ولا تعالج، واليوم بعد أن استقرت هذه المجتمعات فمن الملاحظ انقسامها واختلافها، وبدأ العدد الوفير من المثقفين وغيرهم بطرح العديد من الأسئلة التي لم يقدم هذا النهج شيئا من إجاباتها، لتتسع مساحة هذا الفراغ الفكري لديهم، فهم بحيرة من أمرهم، بلا فكر او اي هدف له معنى يساعدهم لفهم العديد من الأشياء، ما زال اهمها هو الغاية من وجودهم، ربما ما كان عليهم أن يكترثوا لذلك، ولا بد من الاستمرار باستحداث الجديد من ادوات الرفاهية لاقناعهم ان ما زال لديهم العديد من الرغبات الجديدة التي يجب السعي وراء تحقيقها، فهل سيستمرون بالبقاء على هذا الحال؟ ام ان نزعة فكرية ما ستجد سبيل لهم؟ اظن ذلك ليس عنهم ببعيد وخاصة تصاعد التيارات الايدلوجية التي تتعارض كليا مع هذه البراغماتيه.

نعم عزيزي القارئ لا بد لنا أن نفهم كيف يفكر غيرنا، وهذه الإضاءات النقدية حول البراغماتية قد تكون مقدمة لذلك، وقد تستنج من كل ما سبق أنها جاءت لحذف كل الأيدولوجيات والمبادئ والمسلمات السابقة التي أتت مع المهاجرين للعالم الذي كان يسمى بالعالم الجديد واستبدلته بطريقة بمنتهى الذكاء بمبادئ ومسلمات جديدة، فهذه المدرسة التي اشتق اسمها من كلمة (براجما) اليونانية والتي تعني العمل والتي أيضا يطلق عليها الذرائعية أو العملانية وغيرها من مسميات لا تدور إلا حول ما (يظن) أن المنفعة المجردة هي المعيار الوحيد أو بطريقة أوضح (نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة) ولكنها لا تكترث بنوع العمل أو أن هذا النجاح مؤقت لحظي وما قد يترتب عليه من تبعات قد تكون مدمرة وبمنتهى الأذى على المجتمعات، وكمثال بسيط لو أن مؤسسة نجحت ببيع الأخشاب وحققت الكثير من الأرباح والمنافع لها فهل هذه حقيقة يجب أن نقف عندها ولا نذكر أي شيء عن الأثر البيئي السيئ مستقبلا على الغطاء النباتي لمكان استثمار تلك المؤسسة؟ فإذا كانت هذه الأخطاء قد تحدث من كبار المؤسسات فهل الأفراد لن يرتكبوا نفس الفكرة العامة لتلك الأخطاء والتي قد تجر المصائب على مجريات حياتهم.

ربما الأفضل التعامل مع المجتمعات التي تتمسك بأيدلوجياتها حتى لو تعارضت معك، على الأقل ستتمكن من قراءة مرجع ما لفهم خلفيتها بكل وضوح بعيدا عن هذه الذرائعية والتي أيضا من جانب آخر أخذت منحى غير سوي بالتحامها مع الميكافيلية نسبة لمنظر السياسة الإيطالي نيوقوليا ميكيافيلي التي تؤمن بالغاية التي تبرر الوسيلة لنرى أثرها ابتداء من التسلق على أكتاف زميل للوصول لمركز أفضل بوظيفة ما، أو اعتماد المنافع والمصالح لبناء العلاقات بين دولة ودولة حتى لو كانت هذه العلاقة على حساب دولة أُخرى، وحتى العمل لكسب الحروب وإن كان النصر بها سيكون فوق أشلاء الأطفال والنساء، ديدن أصحابها السير بدون أي خجل على نهج واضح يتمثل بقول السنتهم بأن الصدق ان جلب لنا الفائدة صدقنا وإن كان الكذب سيجلبها تركنا الصدق وكذبنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.