إعلام الأنابيب


الدكتور رشيد عبّاس

قبل أن أقرأ مقالة بعنوان أطفال الأنابيب في احدى المجلات العلمية الأمريكية قبل نحو عقدين من الزمن تقريباً, كنتُ اعتقد للوهلة الأولى أن طفل الأنابيب يمكث في الأنبوبة تسعة شهور كاملة, وأكثر من ذلك كان ينتابني شعور بأن كثير من خصائص أطفال الأنابيب الجسمية والنفسية والجنسية تتشكل كيمائياً خلال تواجده داخل الأنبوب.., بعد ذلك ومن خلال المقالة, تبين لي أن فكرة أطفال الأنابيب جاءت لمعالجة مشكلات العقم المختلفة, حيث تتمّ من خلالها سحب البويضات من الزوجة وتخصيبها بالحيوانات المنويّة للزوج (أو الحيوانات المنويّة المُتبرّع بها) في بيئة مخبرية، ثم تُنقل الأجنّة المتكوّنة إلى رحم الأم.
لكن – ولكن هنا ناسفة – هناك دراسة بلجيكية حديثة كشف نتائج صادمة عن خصوبة أطفال الأنابيب, حيث تبيّن أن هؤلاء الأطفال أقل خصوبة من أطفال الولادة الطبيعية, وأن احتمالات إنجاب هؤلاء الأطفال في المستقبل عليه كثير من إشارات الاستفهام.
لكن.. ما علاقة أطفال الانابيب بإعلام الأنابيب؟
اليوم هناك امتداد لهذه الأنابيب ليتشكل لدينا شيء أسمه (إعلام الأنابيب), ومن الطبيعي أن تثار لدى البعض تساؤلات عدة حول هذا الإعلام, ومن أبرز هذه التساؤلات: ما طبيعة إعلام الأنابيب, وكيف يصنع إعلام الأنابيب الخبر خارج مكان وزمان الحدث؟
إعلام الأنابيب هو ذلك الإعلام الذي يأخذ الخبر من مكان وزمان الحدث, ويجري عليه بعض التغييرات الإعلامية, ومن ثم نشره بالكيفية التي يراها مسؤول القناة أو المحطة, لتنسجم المادة الإعلامية مع سياسة وأهداف القناة, وربما اخضاع الخبر لسياسات وتوازنات إقليمية ضاغطة لا يمكن تجاهلها أو القفز عنها, حتى لو أدى ذلك إلى تشوهات في شكل ومضمون الخبر.
هناك دراسات تؤكد أن نشر الخبر من مكان وزمان الحدث كما هو يعطي للمتلقي مصداقية قد تصل إلى 95 %, في حين أن نشر الخبر من غير مكان وزمان الحدث يعطي للمتلقي مصداقية قد لا تصل إلى 65 % في أحسن الظروف, ومن هنا نجد أن عملية اختيار الصحفيين الميدانيين يكون بكل عناية ودراية, فضلاً عن تدريبهم بطريقة أكثر مهنية, لكون عملهم يقتضي نشر الخبر من مكان وزمان الحدث كما هو, لكن يبقى هناك سؤال من نوع, هل نشر الخبر من مكان وزمان الحدث كما هو دون أن يشكّل رأياً عاماً لدى المتلقين, هل يمكن اعتباره من ضمن الإعلام الفعّال؟
اعتقد أن الإعلام العربي بمجمله إعلام أنابيب, بمعنى أنه إعلام يلتقط الخبر من مكان وزمان الحدث, مع تكييف المادة الإعلامية قبل نشرها بطريقة أو بأخرى وفق اعتبارات إقليمية مؤثرة, فضلاً على انه إعلام لا يشكل رأياً عاماً لدى الجمهور العربي ليكون ضاغطاً على الحكومات العربية وذلك لاتخاذ إجراءات عملية يمكن رؤيتها على ارض الواقع.
الإعلام الفعّال لا يكتفي فقط بالتقاط الخبر ونشره كما جاء من مكان وزمان الحدث, إنما يعمل على تشكيل الرأي العام لدى المثقفين المتلقين, والذين يشكّلون بدورهم أداة ضاغطة على الحكومات كي تتخذ قرارات عملية مدروسة اتجاه الحدث.
لا أعتقد هنا أن الإعلام العربي في تعامله مع حرب غزة خرج عن كونه إعلام أنابيب.., فواقع الحال يؤكد أن هذا الإعلام لم يقم على الإطلاق بتشكيل الرأي العام لدى المثقفين المتلقين من العرب, ولم يشكّل هؤلاء بدورهم أداة ضاغطة على الحكومات العربية كي تتخذ قرارات عملية واقعية اتجاه الكيان الصهيوني.
نعم, إعلام الأنابيب لا يوجد في سياقاته للأسف الشديد أفعال مستقبلية, إنما معظم سياقاته عن الماضي, كونه يقوم بتأجيل المادة الإعلامية / الخبر لـ(مكيجته) وتزويقه قبل نشره, فيصبح عندها مادة إعلامية في زمن ماضي, وأن أدخلوا على الفعل الماضي سوف أو سين التسويف في تقارير بعض المسؤولين بما سيقومون به, إلا أن فعل المستقبل في هذه الحالة بات محط استغراب لدى المتلقين.
صدقوني أن إعلام الأنابيب أقل خصوبة من الإعلام خارج الأنابيب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.