الاستعمار الفرنسي للجزائر .. جريمة دولة مكتملة الأركان لا يغسلها الصمت ولا تسقط بالتقادم

مهدي مبارك عبدالله
منذ أن وطأة أقدام الجيش الفرنسي الغازي شواطئ الجزائر في صيف 1830 لم يكن ما جرى احتلالًا بالمعنى التقليدي بل كان إعلانًا مفتوحًا لحرب اجرامية طويلة على الإنسان والوطن والتاريخ والهوية استمرت قرن وثلث قرن من القتل والاقتلاع والتجويع ومحاولات المسخ والتي حوّلت الجزائر إلى ساحة جريمة ممتدة لم تتوقف إلا حين فُرض الاستقلال بدماء الشهداء لا بمنحة استعمارية ولا بتنازلات أخلاقية من قوة محتلة
يوم الأربعاء الماضي 24 ديسمبر 2025 وبعد قرن ونصف من جريمة الدم والإبادة والاقتلاع التي مارسها المستعمرون الفرنسيون في الجزائر بكل شراسة وعنف وانتهت بثورة تحرير دامت شعلتها أكثر من مئة وعشرين عامً من المقاومة المتصلة وسقط فيها أكثر من مليون شهيد حيث استعاد الجزائريون التاريخ من جديد بإرادة السيادة وعزيمة الاصرار حين قرر ممثلو الشعب في البرلمان وضع هذا الماضي الدموي بكل تفاصيله المفجعة في تشريع قانوني وطني يضع فرنسا في قفص الاتهام ويصنف اعمالها بانها ( جريمة دولة ) مكتملة الأركان لا يغسلها الصمت ولا تسقط بالتقادم
هذا القانون لم يكن ثمرة لحظة انفعال سياسي ولا ردّ فعل عابر على أزمة دبلوماسية وقعت بين البلدين مؤخرا بل هو تتويجًا لمسار طويل من الوعي الوطني وكسرًا متعمّدًا لكل التوقعات الفرنسية التي راهنت لعقود على إنهاك الذاكرة الشعبية وعلى تحويل الجريمة إلى مجرد ملف تاريخي قابل للنسيان والمساومة وبينما كانت باريس تراهن على مرور الزمن راهنت الجزائر على الذاكرة التي لا تموت وعلى حق الأجيال القادمة في معرفة الحقيقة كاملة بلا تزوير ولا تلطيف ولا خطاب كولونيالي معاد تدويره مرة اخرى
في مشهد وطني غير مسبوق منذ الاستقلال وقف البرلمان الجزائري موحّدًا متجاوزًا الحسابات الحزبية الضيقة والضغوط الخارجية المتواصلة ليعلن أن ذاكرة الوطن ليست موضوعًا للنقاش او التفاوض وأن دماء أكثر من مليون شهيد ليست أرقام في أرشيف التاريخ بل هي أساس شرعية ووجود الدولة وعمود سيادتها ومكانتها حيث كان التصويت على ( قانون تجريم الاستعمار ) موقف تحدٍّ صريح لكل من أنكر ولكل من حاول التقليل ولكل من ظنّ أن الجزائر ستطوي الصفحة قبل أن تسمي الجريمة الموصوفة وتحمل الجاني مسؤوليتها
بإقرار هذا القانون التاريخي لم تكتب الجزائر فصلًا جديدًا عن الماضي المظلم بل أوقفت استمرار العبث به وفتحت بابًا مشرّعًا أمام العدالة التاريخية بقانون لا يستهدف شعبًا ولا يستدعي حقدًا لكنه يضع حدًا نهائيًا لعصر الصمت والتخاذل ويؤسس لذاكرة وطنية محصّنة بالقانون تُسلَّم للأجيال المقبلة لا بوصفها حكاية مأساة فقط بل كدرس سيادة وحق وكشهادة على أن الشعوب التي تحمي ذاكرتها لا تهزم مهما طال ليل الاستعمار واستشرى ظلمه
الاستعمار الفرنسي البغيض في الجزائر لم يكن مجرد احتلالًا عسكريًا عابرًا بل كان نظامًا متكاملًا للقهر صُمّم لتدمير الإنسان قبل الأرض ولتفكيك المجتمع قبل السيطرة عليه ومنذ الأيام الأولى للغزو مارست فرنسا بلا هوادة سياسة الأرض المحروقة حيث دمرت القرى وصادرت الأراضي وأحلت المستوطنين مكان اصحاب الأرض الشرعيين وحولت الجزائري إلى كائن بلا حقوق في وطنه ولم يكن القانون الاستعماري سوى أداة عنصرية تُشرعن الإذلال والابادة حيث فُرضت قوانين استثنائية لا تُطبّق إلا على الجزائريين كما حرموا من التعليم ومنعوا من استعمال لغتهم واستُهدفت عقيدتهم واصول دينهم في محاولة فاشلة لطمس هويتهم الضاربة في اعماق التاريخ والحضارة
جرائم الاستعمار الفرنسي المتنوعة لم تكن حوادث فردية او نزعات معزولة بل سياسة دولة مكتملة الأركان مارست اقصى المجازر الجماعية وطبقت الإعدامات خارج القانون والتعذيب الممنهج في السجون والمعتقلات فضلا عن الاغتصاب والنفي القسري واقامة معسكرات الاعتقال الجماعية التي حشر فيها ملايين الجزائريين في ظروف غير إنسانية أُبيدت خلالها قبائل كاملة ودُفنت أجساد المقاومين في مقابر جماعية وعلقت جماجمهم في متاحف باريس كغنائم حرب وحتى الصحراء لم تسلم من الاذى حين حولتها فرنسا إلى مختبر نووي مفتوح بعدما فجّرت فيها سبع عشرة قنبلة نووية تاركة خلفها تلوثًا إشعاعيًا ما زال يقتل ويشوه بصمت في واحدة من أبشع الجرائم البيئية في التاريخ الحديث
أمام هذا الجحيم الذي لا يرحم لم يكن الشعب الجزائري ضحية صامتة بل تصدى منذ اللحظة الأولى للمستعمر بمقاومةالأمير البطل عبد القادر مرورا بثورات الجنوب والقبائل إلى انتفاضة نوفمبر 1954 حيث كانت الجزائر في حالة ثورة دائمة وطويلة امتدت لأكثر من 120 عام دفعت فيها الأمة ثمن حريتها دمًا ودموعًا وخرابًا ومليون شهيد سقطوا بكل شجاعة واقدام ليبقى الوطن ولتُكسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وليفرض الاستقلال على دولة استعمارية ارهابية لم ترحل إلا تحت قسوة ضربات المقاومة
رغم كل هذه الفضائع ما زالت فرنسا حتى اليوم ترفض الاعتراف الكامل والصريح بجريمتها الاستعمارية البشعة ولا زالت ايضا تتهرب من الاعتذار وترفض التعويض وتكتفي بخطوات رمزية فارغة بينما يواصل سياسيون وإعلاميون فرنسيون تبييض صفحة الاستعمار بل وتمجيده أحيانًا وكأن قتل شعب ونهب ثرواته وبتر تاريخه يمكن اختزاله في انشاء طرق وبناء موانئ والغريب ان هذا الإنكار المستمر ليس مجرد موقف سياسي بل امتداد للعقلية الكولونيالية نفسها التي ترفض الاعتراف بالضحية إلا إذا اعترفت أولًا بتفوق الجلاد
من هنا لا يأتي قانون تجريم الاستعمار الفرنسي كرد فعل ظرفي أو ورقة ضغط دبلوماسية كما يفسره البعض بل كتطور نوعي لتحصين الذاكرة الوطنية وكإعلان سيادي بأن الجزائر لن تساوم على تاريخها ولن تقبل أن يُعاد كتابة مأساتها بأقلام المستعمر خصوصا وان هذا القانون سيضع فرنسا أمام مسؤوليتها القانونية والأخلاقية ويؤكد مرة اخرى بأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الانظمة والحكومات
ربما يكون صحيح القول أن هذا القانون في اطار ميزان ميزان القوة الدولية قد لا يُجبر باريس فورًا على الاعتذار أو التعويض لكنه يفعل ما هو أعمق وأخطر سوف يساهم ف تثبت الرواية ويحول الذاكرة من مجال للابتزاز السياسي إلى نص قانوني يقطع الطريق أمام كل من يحاول إنكار الجريمة أو يبررها كما إنه يضع الاستعمار في خانته الطبيعية بان جميع ممارساته كانت جريمة دولة منظمة لا صفحة رمادية في كتب التاريخ المكتوبة بلغة القوي او المنتصر
ما يجب فهمه في هذا السياق ان المصالحة الحقيقية بين الجزائر وفرنسا لا يمكن أن تُبنى على الصمت أو النسيان أو المجاملات الدبلوماسية العابرة بل على الاعتراف الصريح والاعتذار الواضح وتحمل المسؤولية الكاملة وما لم تفعل فرنسا ذلك ستبقى العلاقة أسيرة ماضٍ لم يُحاسَب عليه وستظل الجزائر بقانونها وذاكرتها وشهدائها تذكّر العالم بأن الحرية لم تكن هبة او منة وأن الاستعمار لم يكن يومًا قدرًا محتوما بل جريمة منكرة سقطت وستبقى مدانة إلى أن يعترف الجاني بما اقترفت يداه
في المقابل على فرنسا ان تعي انها لم تعد تلك الإمبراطورية التي توزّع الأوامر من فوق الخرائط ولا ذلك المركز الذي يدور العالم الفرانكفوني في فلكه طوعًا أو كرهًا خاصة وان نفوذها يتهاوى اليوم في ليبيا ويتكسر في دول الساحل وتطرد من عواصم كانت تُدار بالأمس من غرف باريس الخلفية وعليها ان تفهم اكثر ان إفريقيا التي صبرَت طويلًا على الوصاية الفرنسية بدأت تنزع القيود وتكسر السرديات الكاذبة وتطرد الجيوش الغازية وتُسقط الأقنعة المزيفة وفي هذا المشهد الدولي المتحوّل لم يعد من حق فرنسا أن تتحدث من موقع الأستاذ إمام تلميذه ولا من موقع الجلاد الذي يطالب الضحية بالخضوع والصمت
الغطرسة الفرنسية التي اعتادت إنكار الجرائم والاستخفاف بدماء الشعوب لم تعد ايضا صالحة لعصر يتغيّر بسرعة والجزائر اليوم ليست مستعمرة سابقة تبحث عن رضا باريس بل هي دولة سيّدة نفسها وتملك ذاكرتها وت وتحصن تاريخها بالعدل والقانون وتخاطب فرنسا بنديّة تامة لا تقبل المواربة وان المطالب الجزائرية ليست نزوة سياسية ولا ورقة ضغط ظرفية بل حق تاريخي ثقيل الوزن صيغ بدماء الشهداء وبسنوات الموت والقهر والدمار التي خلّفها احتلال استمر أكثر من قرن وثلث قرن من الظلم والاستبداد
كذلك على فرنسا أن تفهم انه قد فات زمن الإملاءات وأن الاعتراف والاعتذار والتعويض ليست تنازلات مهينة بل شروط الحد الأدنى لأي علاقة صحية مع شعب ذاق كل أصناف الإبادة والدول الحية والكبرى لا تُقاس بقوة إنكارها بل بشجاعة مواجهتها لماضيها ومن يرفض مواجهة تاريخه سيظل يطارده ذلك التاريخ الاسود في كل الساحات من الجزائر إلى الساحل ومن إفريقيا إلى الضمير الإنساني العالمي وصولا الى المحاكم الدولية
ختاما : لقد اختارت الجزائر أن تُغلِق باب الصمت وأن تفتح باب الحقيقة لا للانتقام بل للعدالة والانصاف ومن يقف اليوم في وجه هذا المسار إنما يراهن على عالم لم يعد موجودًا وعلى هيمنة لفظها الزمن فإما أن تتعامل فرنسا بعقلانية وحكمة ودبلوماسية مع مطالب شعب لن ينسَى ولن يغفر ولن يساوم أو أن تبقى أسيرة ماضٍ استعماري ينهار معها بالكامل كما انهارت قوتها وسيطرتها ونفوذها وكما سقط وهم عظمتها الكولونيالية إلى غير رجعة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

