البرفسور كامل العجلوني … اتهموه بمعاداة السامية فشرّف الأمة بضميره وكبريائه

مهدي مبارك عبدالله
لم يعد د خافيا أن أمريكا التي تتفاخر بأنها معقل الديمقراطية و الحرية وموئل العلم وبراءة الاختراعات اصبحت تُدار بمنطق القبيلة حين تمس المصالح الصهيونية حتى في مؤسساتها الأكاديمية والعلمية التي تزعم زورا الحياد والموضوعية بعدما تحولت إلى أدوات مؤذية في يد اللوبي الإسرائيلي الذي بات يقود حملة مطلقة لحماية اسرائيل تحت ذريعة ما يسمى بمعاداة السامية حتى لو كان المتهم عالما في الطب أو فيزياء أو التاريخ أو الفنون الجميلة فالمعيار لم يعد علميا واكاديميا بل اصبح دينيا عنصريا يخضع لمنظومة الولاء لتل أبيب وليس لقيم العدالة أو الحقيقة أو حرية البحث العلمي وبذلك تكشف أمريكا عن وجهها الحقيقي لا كدولة مؤسسات بل ككيان تابع وخاضع لابتزاز فكري منظم جعل من التهمة المعلبة سلاحا لإسكات كل صوت كل حر وشريف ينتقد ما جرى ويجري في غزة من ابادة جماعية وتجويع وحصار قاتل
في تهمة تشرّف صاحبها وتدين مطلقيها وفي مناخ موبوء بالتربض واصطياد المواقف جاء قرار فصل العالم الأردني الكبير البرفسور كامل العجلوني من الجمعية الأمريكية للجراحين ليؤكد أن العلم في أمريكا لم يعد معصوما من السياسة او بعيدا عن الانتقام وأن البحث الأكاديمي صار رهينة لحسابات اللوبي الصهيوني الذي يتدخل في كل قرار ويحدد من يستحق التكريم ومن يستحق العقوبة والعجلوني الذي عُرف في المحافل الدولية كأحد رواد الطب في الشرق الأوسط وأحد أعلام الجراحة الذين رفعوا اسم الأردن والعرب عالميا حيث نال عام 2008 جائزة الجمعية الامريكية نفسها كأفضل طبيب عالمي واليوم يفصلونه لأنه تحدث بالعلم والدليل والبرهان والمنهج التاريخي حين القى محاضرة بعنوان ( قبول الآخر في اليهودية ) مدعمة بالمراجع والمصادر الموثوقة دون اي تحريض أو إساءة لكنه خطيئته الكبرى في نظر السلطات الأمريكية انه وضع النصوص التوراتية المتطرفة أمام ضوء الحقيقة
قرار الفصل ولم يكن أكاديميا بل سياسيا مبرمجًا ضمن حملة شنتها مؤسسات أمريكية مختلفة ضد كل من يتجرأ على نقد الفكر اليهودي المتشدد أو يربط بينه وبين الممارسات الصهيونية في فلسطين فهنا يتحول البحث العلمي إلى محاكمة سياسية ويصبح العالم الجريء متهما بمعاداة السامية فقط بمجرد أنه أزال الغطاء عن نصوص تبرر القتل والهيمنة تُقرأ كل يوم في معابد وكنس المتطرفين لتبرير حرق غزة وسحق أهلها بينما يُعاقب بشدة من يقرأها نقديا أو يعرضها بوصفها جزءا من التاريخ الديني العنيف لقد بات الدين في خدمة الاحتلال والعلم في خدمة الكذب والسياسة في خدمة الخداع والتضليل وبما يشكل فضيحة مدوية للغرب المتحيز
الدكتور العجلوني ليس أول ضحية لهذا المسار فقبله تم طرد عدد من الأكاديميين اليهود أنفسهم لأنهم ناصروا الحقيقة ودافعوا عن الفلسطينيين ومنهم البروفيسور نورمان فنكلستاين الذي حُرم من التثبيت في جامعته رغم تفوقه العلمي لمجرد أنه فضح استغلال الهولوكوست لأغراض سياسية وكذلك البروفيسور إيلان بابي الذي نُفي من جامعة حيفا بعدما كشف تفاصيل التطهير العرقي عام 1948 بل إن طلابا يهودا ايضا في جامعات أمريكية مثل كولومبيا وهارفارد فُصلوا من اتحادات طلابية لأنهم حملوا لافتة كتب عليها أوقفوا إبادة غزة أي أن المسألة لم تعد دينا صافيا بل أيديولوجيا عنصرية منظمة تكمم كل صوت لا يسبح بحمد إسرائيل ويشكرها
هذا المستوى من الانحدار الأخلاقي الذي أصاب مؤسسات العلم الأمريكية يفضح ازدواجية الغرب حين يتحدث عن حرية التعبير وحقوق الإنسان فهو يمنح الجائزة للذين يشتمون الإسلام ويبررون قتل العرب لكنه يسحبها ممن يتجرأ على مساءلة النصوص التوراتية أو نقد السلوك الإسرائيلي وبهذا يصبح ميزانهم الأخلاقي معطوبا تماما لأن الحرية التي تسقط عند باب إسرائيل ليست حرية بل عبودية مقنّعة والبحث العلمي الذي يخضع للابتزاز الصهيوني ليس بحثا بل بروباغندا مغطاة بعباءة العلم والمعرفة
في الحقيقة الراسخة ان كامل العجلوني لم يكن بحاجة لاعترافهم ولا لجائزتهم لأنه بنى مؤسسات علمية وطبية في وطنه غيرت وجه الطب في المنطقة وأسهمت في تدريب مئات الأطباء الذين خدموا الإنسان بصرف النظر عن عرقه أو دينه لذلك فإن قرارهم لا ينقص من علمه شيئا بل يزيده وهجا وتألقا فكل عالم يعاقب لأنه قال الحقيقة يتحول إلى ضمير ووجدان للأمة وكل صوت يُسكت في أمريكا يسمع صداه في الشرق غضبا ورفضا وإصرارا على الاستقلال العلمي والفكري
ما حدث ليس سوى محاولة لتكميم آخر ما تبقى من الأصوات العربية الحرة في ساحات العلم بعدما أُسكتت في السياسة والإعلام لكنهم لا يدركون أن ( العالم الحر ) لا يُفصل بقرار إداري متعسف وأن قيمة الإنسان لا تُقاس بعضوية جمعية ما بل بجرأته على قول الحق وصدقه في انتقاد الباطل إنهم في سكرتهم وظلاميتهم يظنون أن الطرد لعالم موسوعي جليل سيقتل الفكرة بينما في الحقيقة يحررها من قيودهم وعنصريتهم ويمنحها أجنحة أبعد من حدودهم الفضاءات المسمومة والحاقدة
لقد أثبتت محنة العجلوني أن تهمة معاداة السامية تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المفكرين في العالم الغربي وأن من يعارض المشروع الصهيوني ولو بكلمة يوضع في خانة المنبوذين أما الصمت فهو بمثابة صك براءة في حضرة القوة العمياء لذلك وجب أن تُرفض هذه التهمة المكذوبة جملة وتفصيلا وأن تُفهم على حقيقتها كسلاح استعماري حديث يحمي الاحتلال من جرائمه ويعاقب الضمير العالمي بلا ذنب
إن الفصل من الجمعية الأمريكية للجراحين هو وثيقة إدانة صارخة لا للدكتور لعجلوني بل للغرب نفسه لأنه يكشف كيف يُدار العلم في ظل سلطة المال والإعلام واللوبيات الدينية المتعصبة التي جعلت من شعار مكافحة الكراهية ستارا لتسويق الكراهية ضد كل من يجرؤ على التفكير الحر وإذا كان من نُصرة للعجلوني فهي بكل تأكيد نُصرة للعلم والعقل والحرية والفكرة التي تُقاس اليوم بمدى القدرة على قول كلمة حق في وجه سلطة تحرس الكذب باسم الأخلاق
يا دكتور كامل العجلوني إننا باسم الشعب الأردني وشعوب الأمة العربية نقول لك لا تأس على فراق أمة هابطة لا تعرف قدر ومكانة العلماء ولا تكرم المبدعين ولا تصغي لصوت الحق فقد كنت أنت المشرف الحقيقي لجمعيتهم وضميرها الحي وعقلها المتوازن وها أنت اليوم في بلدك الأردن بين أهلك وناسك تنعم بعناية ورعاية قائد الوطن جلالة الملك عبد الله الثاني الذي يعرف قيمة الرجال ويكرم أهل العطاء ويحيط العلماء برعايته وعناية وتقديره والأردنيون جميعا يلتفون حولك ويفتخرون بمواقفك كما يفتخر بك أبناء الأمة العربية الذين يرون فيك صورة العالم النزيه الذي لم يبيع علمه ولم يساوم على ضميره ودينه
لقد كنت يا دكتور كامل العجلوني وما زلت علما وطنيا وعربيا يرفرف في سماء الدنيا بعقل نيّر وضمير حي وقلب نابض بنصرة المظلومين في غزة والوقوف إلى جانب الحق في وجه آلة الحرب والدمار والإبادة التي تمارسها إسرائيل بدعم من القوى الكبرى التي تزعم الدفاع عن الإنسان وهي تموّل تجويع وقتل الأطفال والنساء وتبرر تدمير البيوت والمستشفيات في واحدة من أبشع صور الفاشية الحديثة التي شهدها العالم بالصوت والصورة في تلك المجازر الوحشية اليومية
حتاما : ليعلم هؤلاء الذين تدار حياتهم واعمالهم وقراراتهم في غرف المؤساد المغلقة أن من فصلوه من جمعيتهم لا يمكن أن يفصلوه من قلوب الملايين عرب واردنيون وأن قرارهم الجائر والغبي لم يطردك من محراب العلم بل انت بعقلك ووعيك وعروبتك طردهم من محراب الأخلاق والانسانية وأن الأمة التي أنجبتك ستبقى تفخر بك رمزا وشاهدا على أن الكلمة الصادقة لا تُفصل وأن الضمير الحي لا يُلغى وأن العلم الذي يُنير العقول لا يمكن أن يُحاصر أو يُسجن أو يُسكت ما دمت تحمل رسالة الحق وتضعها فوق كل اعتبار وسنبقى نرى فيك صوتا اردنيا حرا تحدى عنصرية العلم الأمريكي المتصهين وضميرا عربيا في زمن ارتزاق الأكاديميات الغربية لانك ضحية للعلم الأمريكي المسجون في قبضة الصهيونية وان معاداة السامية ان كانت في فضح الظلم والقتل والاجرام فهي وسام شرف على صدرك
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

