التراث بين “عود الحراث والمكمورة” وذاكرة الأمة

محامي محمد صدقي الغرايبة
في كل موسم من مواسم “الاحتفاء بالتراث”، يخرج علينا البعض ممن يحملون أواني نحاسية قديمة، و”عود حراث” مكسور، وطبخة فلاحية كانت يومًا وجبة الضرورة، ليعلنوا أن هذا هو التراث، وكأن هوية الأمة اختُزلت في “قدر” و”ملعقة خشب”!
عجيب أمر هؤلاء الذين يرون في التراث مهرجان أكلات وملابس تقليدية، أو مجرد صور قديمة تُنشر على مواقع التواصل تحت عنوان “من تراثنا الأصيل”، بينما يغيب عنهة بالهم بأن التراث ليس مجرد أشياء ما نرتديها أو نأكلها، بل ما نحمله في عقولنا وضمائرنا.
التراث، في جوهره، ليس طبخة أكلها أجدادنا لأن الفقر وضيق ذات اليد في زمن من الازمان أجبرهم على طبخها، وهي ايضا ليست أداة حراث استخدموها لأن التكنولوجيا لم تكن متاحةوقتذاك ،بل هو طريقة التفكير التي جعلتهم يزرعون الأرض رغم صعوبة العيش،
والقيم التي حفظت كرامتهم رغم الفقر،
والإصرار على الحياة رغم كل ما واجهوه.ولو كان التراث هكذا فلنتوقع من أبناءنا بعد خمسين عام ان يضعوا صور للتراكتورات حلت مكان عود االحراث او صناعة ساندويش برغر او وجبة شاورما في مواسم الاحتفالات بدل من المكسورة واللزاقيات لأن كل هذا يعتبر بالنسبة لهم تراث إذا ماتم اختزال التراث بتلك الأشياء .
التراث ليس ما نُعيد تمثيله في المهرجانات،
بل ما تحضره في سلوكنا اليومي: في احترامنا للعمل، في تقديرنا للكلمة، في صدقنا، في شجاعتنا، في كرمنا.فماذا ينفع أن نرتدي الثوب التقليدي ونلتقط الصور، ونحن نخلع معه القيم التي نسجت خيوطه؟
إن تحويل التراث إلى ديكور موسمي أو فقرة فلكلورية هو إهانة لذاكرة الشعوب،تمامًا كما لو اختزلنا كتاب التاريخ في جدول .
فالتراث ليس للعرض، بل للفهم والاستمرار.
التراث الحقيقي لا يُحفظ في المتاحف، بل في العقول والقلوب.هو اللغة التي نتحدث بها، والأخلاق التي نتمسك بها، والهوية التي تمنحنا مكانًا بين الأمم.
وزارة الثقافة معنيةً بإعادة النظر في مفهومنا للتراث، قبل أن نصحو يومًا فنكتشف أننا نحمل صحون وكاسات الكرتون بدلا من الأواني النحاسية ونضع مطحنة القهوة مكان المهباش لأننا صنعنا هوية رقمية جديدة بلا جذور وأصبح تراثنا مجرد تراثا رقميا.