التنسيق الأمني تصفية المقاومين على مذبح السلطة !


مهدي مبارك عبدالله

=

بقلم //  مهدي مبارك عبد الله

عناوين عديدة يمكن لنا ان نطلقها على ما يسمى باتفاقية التنسيق الامني ( الاستخباراتي ) المشين بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني فهو بكل تأكيد العين اليقظة في رصد ومتابعة المناهضين والمقاومين للاحتلال وكذلك هو اليد الحريصة على تطهير وتفريغ الضفة الغربية من رجال المقاومة وهو ايضا الخنجر المسموم والمغروس بغل وانتقام في قلب وجنب وظهر كل من يقف في وجه الاحتلال وادواته الرخيصة ليصبح هؤلاء الوطنيون الاحرار قرابين وفاء لاحترام السلطة ( من طرف واحد ) للاتفاقات المجحفة

التنسيق الأمني الذي أفرزته اتّفاقات أوسلو لا يقتصر على التنسيق الاستخباراتي فقط كما يتبادر لذهن البعض للوهلة الأولى فنظرية الأمن الإسرائيلي تشمل كل مناحي الحياة فالاستيراد والتصدير يحتاج إلى تنسيق أمني ونقل مريض في سيارة إسعاف من المناطق إلى مستشفيات القدس مثلا بحاجة ايضا إلى تنسيق أمني وحتى انتقال الرئيس عباس من مدينة إلى أخرى أو سفره إلى الخارج أو عودته يحتاج الى تنسيق أمني ونقل الأدوية والموادّ الغذائية وغيرها الى قطاع غزة يحتاج كله إلى تنسيق أمني….إلخ
لكن ما يستدعي التّوقف عند مسألة التنسيق الاستخباراتي هو فيما اذا كان تنسيقا متبادلا أم مجرد إعطاء أوامر من الطّرف الأقوى وإذا كان هذا النوع من التنسيق ضروريّ من أجل ضمان الأمن الاجتماعي كما يزعم الإسرائيليون فهل الأمن الشخصي والجمعي حق حصري للإسرائيليّين وحدهم دون الفلسطينيّين

بتخطيط وتلكؤ نجحت إسرائيل عبر اتفاقات أوسلو بتفريغ منظمة التحرير وفصائلها من مضمونها الذي تأسست من أجله بعدما قتلت ببطيء شديد هذه الاتفاقات واستغلتها لتنفيذ سياساتها التوسعية واستطاعت من خلالها تضليل العالم في ربع القرن الماضي وهي ترفع شعار السلام لتكسب الوقت لغايات فرض وقائع استيطانية وديموغرافية على الأرض الفلسطينية جعلت إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة أمرا مستحيلا الا في خيال وظن بعض الموهومين من زواحف التطبيع البشرية

كان من المفترض ان يكون توقيع اتفاقية أوسلو محطة اساسية لضمان انطلاق قطار السلام الفلسطيني والإسرائيلي نحو إقامة ( سلطة حكم ذاتي فلسطينية ) في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر وذلك لفترة انتقالية لا تتعدّى الـ 5 سنوات تنتهي بتسوية دائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مبدأ حل الدولتين دولة فلسطين على حدود عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة ودولة إسرائيلية على حدود اراضي الـ 48

بناء على هذه الاتفاقية والتزاما ببنودها أدانت منظمة التحرير مبكرا استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى وقامت بتعديل بنود ميثاقها الوطني ليتماشى مع هذا التغيير كما أخذت على عاتقها إلزام كل عناصر وأفراد منظمة التحرير بها ومنع انتهاكها وملاحقة وضبط الخارجين عليها وهو ما اعتبره البعض بمنزلة القضاء الفعلي على مخرجات الانتفاضة الفلسطينية الأولى ( انتفاضة الحجارة ) عام 1987 كما انه محاصرة لحق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن نفسها والتصدي لقوات الاحتلال

واستكمالًا لاتفاقية وملاحق أوسلو وقّعت السلطة الفلسطينية وإسرائيل اتفاق طابا أو ما عرَف باسم ( اتفاقية أوسلو 2 ) عام 1995 وفيها بدأت هنا تتبلور فكرة ( التنسيق الامني ) بين الطرفَين حيث نصت الاتفاقية من ضمن بنودها على أنه باستثناء ( سلاح وعتاد وأجهزة الشرطة الفلسطينية ) لا يمكن لأي منظمة أو مجموعة أو أفراد في الضفة الغربية وقطاع غزة أن يصنع أو يبيع أو يحوز أو يملك أو يورد أو يحضر سلاح أو العتاد او المتفجرات أو ملح البارود أو أي أجهزة ومعدات مرتبطة بذلك

منذ بدايته لم يلقَى اتفاق أوسلو الأول والثاني ترحيبًا بين الأوساط الشعبية حيث أستنكر معظم الفلسطينيين أفرادًا وفصائل خطوة منظمة التحرير الفلسطينية ( ممثِّلة الشعب الفلسطيني ) لما يعنيه الاتفاق من اعتراف مسبق بإسرائيل وهضم للحق الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي المقاومة وما يترتّب عليه من تعاون أمني مشدد بين الاحتلال والسلطة ( أي أن بندقية المقاومة اصبحت يلاحقها الرفيق والشقيق قبل العدو المحتل )

وجراء ذلك الواقع المؤلم بقي الشعب الفلسطيني في معظمه يرفض الاحتلال دون النظر الى الجانب السياسي الرسمي الموقع بين الطرفين وبهذا استمرت المقاومة الشعبية الفردية التي تبنتها الأجنحة العسكرية للفصائل وبدأت مدن الداخل المحتل ونقاط التماس وحيثما توجد الحواجز ونقاط التفتيش الإسرائيلية والمستوطنات التي بنتها إسرائيل على امتداد الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تعاني من اشكال مختلفة من الهجمات المسلحة المفاجئة

من هنا بات العالم من جديد يستيقظ على عمليات إطلاق النار والعمليات الاستشهادية في الملاهٍي والنوادي والشوارع ومواقف الحافلات والتجمعات الإسرائيلية وغيرها كما رصدت الكاميرات المثبتة في الشوارع والمواقع ( طيرانَ سقف احد الباصات ) في إشارة إلى العملية الاستشهادية التي نفذتها كتائب القسام حسبما وصفها الشهيد عبد العزيز الرنتيسي أحد قادة ومؤسّسي حركة حماس

ومع تصاعد العمليات الفدائية شبه اليومي ضد الاحتلال الإسرائيلي بدأت منظمة التحرير الفلسطينية فمثلة بمؤسساتها العسكري والشرطية والامنية وتعبيرا عن حسن نيتها بالالتزام الحرفي بنصوص اتفاق أوسلو في توظيف كامل مخابراتها وعملائها الميدانيين للإيقاع بالمقاومين الفلسطينيين ورصد تحركاتهم وجمع المعلومات وتقديمها على طبق من ذهب ( للمخابرات الإسرائيلية ) حتى تنصب كمائنها لاعتقال المقاومين أو اغتيالهم

وفي منتصف التسعينيات بدأت تبرز العديد من الأسماء لمقاومين ساهمت السلطة الفلسطينية ممثلةً بمنظمة التحرير في تسليمهم للاحتلال الإسرائيلي مثل الشهيد ( محيي الدين الشريف ) أحد القادة القساميين الذي نجا من محاولة اغتيال إسرائيلية حتى سقط في يد رجال الأمن الوقائي الفلسطيني بعد تعذيبه في سجونهم مما أسفر عن بتر ساقه اثناء محاولة سحب الاعترافات منه عن المقاومين الآخرين قبل أن تضعه الأجهزة الأمنية في سيارة مفخخة وتفجرها في مدينة رام الله المحتلة في عام 1998 حسبما ورد من معلومات عديدة

وضمن صفحة أخرى من حوادث تسليم الدم الفلسطيني للاحتلال الاسرائيلي بأيادي التنسيق الأمني يتذكر الفلسطينيون جيدا القائدَين في كتائب القسام الشقيقَين الشهيدَين ( عماد وعادل عوض الله ) اللذين نشطا بشكل خاص في سلسلة عمليات ما عرف حينها بـ ( الثأر المقدس ) ردًّا على اغتيال المهندس يحيى عياش عام 1996 وقد أصبحا بذلك مطلوبين لدى كل من الاحتلال الإسرائيلي والأمن الفلسطيني ولهذا قامت المخابرات الفلسطينية بمداهمة منزلهما عدة مرات ومراقبته والتحقيق مع كل من يدخله او يزوره

وبعد عامَين كاملَين من متابعة الشقيقان نضالهما بعيدًا عن أعين الأمن الوقائي الفلسطيني والشاباك الإسرائيلي اعتقلت جماعة الأمن الوقائي الفلسطيني عماد الذي قال في رسالة كتبها عقب نجاحه من الفرار من سجون السلطة ( أمضيت 4 أشهر متنقل بين عدد من السجون ) لاقيت فيها من التعذيب ما لا يتحمله بشر من شبح متواصل وضرب على الرأس وتجريد من الملابس ونتف للحية ولشعر الرأس حتى كدت أن أفقد حياتي في إحدى المرات وفي شهر تشرين الثاني عام 1998 استطاع الاحتلال الإسرائيلي اغتيال الشقيقين ( عماد وعادل عوض الله ) في مدينة الخليل المحتلة بعد تبادل المعلومات الاستخبارية الدقيقة مع امن السلطة الفلسطينية

بعد اندلاع الانتفاضة الثانية ( انتفاضة الأقصى ) عام 2000 تراجعت حدّة التنسيق الأمني بشكل كبير خاصة بعدما أظهرت ممارسات الاحتلال نقضها لكامل البنود التي أبرمها مع السلطة الفلسطينية في اتفاقية أوسلو وازدياد بناء المستوطنات وتكرار قصف المقرات الأمنية الفلسطينية إبان الانتفاضة ولعل ظهور كتائب شهداء الاقصى كذراع عسكرية لحركة فتح وتصاعد الأصوات الثورية بين قيادات الحركة أسهم بشكل كبير في تراجع التعاون الاستخباراتي وملاحقة المقاومين بين السلطة الفلسطينية والاحتلال خاصة وإن كتائب شهداء الأقصى كانت قد أحدثت ضربات موجعة في عمق الكيان الإسرائيلي قبل حلها وتسليم اسلحتها وتحويل بعض عناصرها الى موظفين

بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004 وتولي الرئيس محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح وبذلك عاد استئناف الاتصالات بين السلطة والاحتلال وأبرمت السلطة اتفاقً جديد عام 2005 بينها وبين إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وحكومة رئيس وزراء الاحتلال حينها أرئيل شارون لتشكيل فريق التنسيق الأمني الأميركي بقيادة الجنرال الامريكي ( كيث دايتون ) للعمل على تجهيز القوات الأمنية الفلسطينية وتدريبها والإشراف على التنسيق الأمني بين الطرفَين بشكل منظم

لم يقتصر بعد ذلك الحين التنسيق الأمني على ما بعد وقوع العمليات الفدائية وملاحقة المقاومين فحسب بل عملت السلطة وبشكل مفرط على إحباط أي عمل مقاوِم وتتبع الشباب الفلسطينيين ومراقبتهم واعتقال كل من تقوده روحه الثورية لتلبية دعوات النضال ضد الاحتلال وهذا ينسحب على كل ما قامت به حركة فتح خلال أحداث الانقسام الداخلي الفلسطيني عام 2007 بين رام الله وغزة حيث قامت السلطة بإغلاق المساجد في الضفة الغربية المحتلة باعتبارها أحد أهم المعاقل الأساسية لتخريج وتنظيم المقاومين الفدائيين فكرا وسلوكا

وبينما كان الشارع الفلسطيني ملتهبا بين عامي 2015 و2016 فيما عرف بـ ( هبة القدس ) تابعت السلطة الفلسطينية مهمتها في تفريغ الضفة من العمليات الفدائية ضد الاحتلال وفي مقابلة إعلامية منشورة حينها قال رئيس المخابرات العامة للسلطة الفلسطينية ماجد فرج إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد أحبطت أكثر من 200 خطة لعمليات فدائية إضافة إلى مصادرتها العديد من الأسلحة واعتقال نحو 100 فلسطيني في محاولة لمنع وقوع العمليات ضد اسرائيل وفي لقاء اخر مع رئيس الشرطة الفلسطينية اللواء حازم عطالله قال لقد سلمنا لاسرائيل اكثر من 300 مواطن فلسطيني كانوا على قوائم المطلوبين للأجهزة الامنية الاسرائيلية

كما يذكر بان السلطة الفلسطينية سهلت اغتيال المثقف باسل الأعرج بعد أن لاحقته هو ورفاقه واعتقلتهم لعدة شهور قبل أن تفسح المجال لقوات الاحتلال لاغتياله عام 2017 كما شاركت الأجهزة الأمنية في البحث عن منتصر شلبي منفِّذ عملية إطلاق النار على حاجز زعترة قرب مدينة نابلس المحتلة وهو ما أسفر عن مقتل مستوطن وإصابة آخرين حيث داهمت العناصر الامنية الفلسطينية منزله بحثًا عنه وقامت بالبحث عن السيارة التي استخدمها في عمليته قبل أن تجدها ما أدى إلى محاصرة قوات الاحتلال لشلبي واعتقاله

ولا يخفى على الجميع دور السلطة في تحديد مكان اختباء الشاب الشهيد عمر ابو ليلى وتسهيل عملية قتله بعدما هاجم جندي اسرائيلي وسلبه سلاحه ثم قتله وفر الى داخل الضفة الغربية واخيرا وليس اخرا مشاركة مخابرات السلطة وعناصر الامن الوقائي والشرطة في البحث عن الاسيرين الفارين الى جنين من سجن جلبوع ( ايهم كممجي ومناضل نفيعات ) وتحديد المنزل الذي يختبئان فيه وتسهيل مهمة الجنود الاسرائيليين بالوصول اليه والقاء القبض عليهما بدون أي مقاومة

وبعد مرور 17 عام على تولي الرئيس محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية وما اصاب القضية الفلسطينية من دمار وخراب لا زال ( التنسيق الامني مقدس ) عند السلطة رغم ما شهدَه من مراحل جذب وشد خاصة بعد عام 2015 حينما بدأت السلطة الفلسطينية بربط التعاون الأمني بأموال المقاصة ( الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل من سكان الضفة الغربية المحتلة ) قبل أن تعيدها إليها في إطار مراقبة أموال السلطة

وقد أعلنت السلطة أكثر من مرة قرارها بوقف التنسيق الأمني كرد على رفض إسرائيل اعطائها أموال المقاصة إلا إن هذه التصريحات وتلك القرارات بقيت للاستهلاك الاعلامي المحلي والعربي ولم تأخذ مسارها الجدي في ظل ( تخوف السلطة الفلسطينية المفرط من تفاقم نشاط العمل المقاوِم ) في الضفة الغربية المحتلة واعادة استنساخ تجربة المقاومة في قطاع غزة وهو ما سيشكل خطرًا حقيقيًا محدقا على السلطة الفلسطينية نفسها قبل كيان الاحتلال الاسرائيلي

اخيرا ان استمرار التزام السلطة بالتنسيق الأمني هو الذي شجع اسرائيل على دعم قطعان المستوطنين وتوفير الحماية لهم لقتل الفلسطينيّين والتنكيل بهم والاعتداء والاستيلاء على أراضيهم وبلداتهم ومزارعهم وقطع وحرق اشجارهم تحت حماية قوات الجيش والأذرع الأمنية المختلفة اضافة الى انه مكن عناصر الشرطة الجيش والمخابرات والمستعربين الإسرائيليين من استباحة المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينيّة وقتل الفلسطينيين بمن فيهم الأطفال والنساء بشكل شبه يومي وانتهاك وتدنيس حرمات الأماكن المقدسة في المسجد الأقصى والحرم الابراهيمي على مسمع ومرأى السلطة وعناصرها الأمنية دون تحريك أي ساكن
mahdimubarak@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.