الدعوة لحرق جثة السنوار الوجه البربري لوحشية إسرائيل


مهدي مبارك عبدالله

 

لم تعرف إسرائيل منذ قيامها استشراء حالة من فزع نفسي جماعي كالتي تركها االقائد يحيى السنوار في وجدان قادتها وساستها وجيشها حتى بعد استشهاده ما زال يشغلهم كأنما هو حي بينهم يقض مضاجعهم ويهدم أركان كبريائهم الزائف وبعد عام كامل من مقتله في رفح خرجت وزيرة المواصلات الإسرائيلية ميري ريغيف لتقترح أمام الكابينت حرق جثته في سلوك يكشف حجم الكراهية المتجذرة والحقد المتوارث في أوساط قيادية وسياسية تجاه رمز فلسطيني يؤرقهم

إن دعوة ريغيف ليست مجرد انفعال سياسي بل تعبير عن أزمة أخلاقية عميقة في دولة تقدس القتل وتستبيح الموتى كما الأحياء وتكشف عن محاولة يائسة لمحو أثر رجل أصبح في نظر خصومه مرادفا للهزيمة والعار فالسنوار لم يكن مجرد قائد ميداني بل كان مشروعًا ووعيا ومقاومة جمع بين الفكر والسلاح وبين الإيمان والتحدي وجعل خصومه يرونه كابوسًا لا ينتهي

لقد آلم السنوار إسرائيل حيث لا تتوقع في صورتها وفي ثقتها بنفسها وفي وهم تفوقها الاستخباري والعسكري حين خطط عملية طوفان الأقصى بدقة أربكت المنظومة الأمنية الإسرائيلية كلها وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر ومنذ ذلك اليوم تحاول دوائر القرار محو الإهانة الكبرى لكنها تفشل في كل مرة لأن السنوار لم يكن فردا بل فكرة وعقيدة تتناسل في كل بيت وطفل فلسطيني

لم يكتف المعتدون باغتياله بوحشية بل احتجزوا جثمانه وأخضعوه للتشريح ونقلوه إلى مكان سري في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الإنسانية والدينية وحتى بعد مضي عام على استشهاده يخرج بعض الساسة في تل أبيب (وزيرة النقل والمواصلات الإسرائيلية ميري ريغيف ) ليقترحوا حرق جثمانه في مقارنة تكشف ضحالة الفهم وجهلهم بمعاني البطولة والشهادة في ثقافتنا لكنهم لا يدركون أن الشهداء لا يحترقون وأن رمادهم يصير بذورا في الأرض وأن كل محاولة لإهانة أجسادهم تزيدهم خلود

هذه التصرفات تكشف عن سياسات وممارسات واجهت اتهامات بمحاولات تغيير ديموغرافي ومحو الذاكرة التاريخية ولكنها في الوقت نفسه تعكس اعترافا ضمنيا بقوة تأثير الشهيد الذي لم يستطيعوا الانتصار عليه حتى في موته فكم من شهيد ظنوا أنهم أنهوا قصته فإذا بها تبدأ من جديد في قلوب الملايين وهكذا تحول السنوار إلى رمز خالد في الوجدان الفلسطيني والعربي لا تطفئه النار ولا يمحوه التراب لأن الشعوب لا تحرق رموزها بل تحفظهم في قلوبها

في إشارة إلى وقائع التاريخ البعيد يبرز اسم ذو النواس ملك حمير الذي تذكر المصادر التاريخية أنه اعتنق اليهودية وقاد حملة دموية ضد أتباع الديانة النصرانية ونقلت الروايات حادثة الأخدود حيث أحرق مؤمنين مسيحيين في مشهد مروع يظل شاهدا على ما يفعله التعصب الديني حين يلتصق بالسلطة وهذه الحوادث تؤكد أن قراءة التاريخ يجب أن تميز بين أفعال حكام ومتعصبين وبين الشعوب بأسرها وفي التاريخ الحديث نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما جر مع الشهيد الطفل محمد حسين أبو خضير في حي شعفاط بمدينة القدس المحتلة تموز 2014 حيث توجه به المستوطنون الخاطفون إلى أحراش دير ياسين وبدؤوا بتعذيبه ضربا وخنقا ثم سكب القاتل يوسف بن دافيد البنزين عليه وأجبره على شربه ثم أضرم النيران بجسده المنهك وأحرقه حيا حتى الموت

لهذا لا عجب فيما صرحت به الوزيرة العنصرية خصوصا وان عباراتهم تعبر عن الحقد الدفين الذي تحتويه نفوسهم الكريهة والمولعة بالقتل والتقتيل والتعصب والتطرف الديني المقيت وفق ما تعلموه من التلمود والتوراة المحرفة ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن كل من عمل في الجيش الاسرائيلي يتربى منذ البداية في مدارس عسكرية صهيونية على كراهية الفلسطينيين والعرب ناهيك عن النظرة العنصرية الفوقية التي تنظر إلى ما دون اليهود على أنهم مجرد حيوانات تستحق القتل بحسب تعبير التوراة المحرفة

العدو الصهيوني إن ظن أنه حين يحرق جثمان الشهيد سيجعل الفلسطيني يشعر بأن قائده قد سحق أو أهين من منطلق أن المحو الرمزي هو النهاية فقد أساء الظن لأن ما يتوهم أنه نهاية هو في الحقيقة بداية جديدة لأن النار لا تحرق الرموز بل تلهب الذاكرة وتوقظها وتجعلها أكثر اشتعالا وإن تم الحرق الذي اقترحته تلك الوزيرة السادية فإن ما سيحدث هو عكس ما يتوقعون لأن هذا الفعل الإجرامي الانتقامي سيشعل في الوجدان الجمعي جذوة لا تنطفئ وسيحث على إنتاج رمز لا يحترق أبدا فالتاريخ كله يشهد أن القادة الكبار حين يموتون تبدأ حياتهم الرمزية وتتجاوز أجسادهم إلى خلود تتوارثه الأجيال لأن الحرق لا يزيل الأثر بل يعمقه في اللاوعي الجمعي فيتحول إلى دافع وإلى سردية تعبئة ضد العدو الذي يظن أنه أطفأ النار فإذا بها تشتعل في قلب كل فلسطيني إن محاولات التدمير الرمزي تعيد إنتاج الصورة وترسخها وكل حقد يحرق الجسد إنما يصنع من رماده راية جديدة ترفرف فوق الأرض التي أنجبت الأبطال

في الوقت الذي تطالب فيه وزيرة إسرائيلية بحرق جثة الشهيد يحيى السنوار كانت المقاومة الفلسطينية في غزة تقدّم نموذجاً مغايراً تماماً إذ سلّمت جثث الجنود الإسرائيليين في توابيت مكرّمة وبصمتٍ يحترم حرمة الموتى ويصون كرامتهم هذه المفارقة تكشف بوضوح الفارق الأخلاقي بين من يتشدّق بالقيم ويمارس نقيضها وبين من يواجه القتل والدمار لكنه لا يتخلى عن إنسانيته حتى أمام من قاتلوه

التناقض لا يقتصر على حادثة واحدة بل يكشف جوهر العقلية الإسرائيلية التي تشرعن العنف وتقدّسه تحت ستار الأمن القومي بينما تستمر في الادعاء الزائف بالتمدن والإنسانية أمام العالم فكيف لدولة تدّعي القيم الغربية أن تسمح لوزرائها بالتحريض العلني على التمثيل بجثث الخصوم، وفي الوقت نفسه تتوقع التسامح والقبول الدولي؟ لقد بات واضحاً أن الاحتلال لم يفقد بوصلته السياسية فحسب بل تخلّى أيضاً عن آخر ما تبقى من القيم الإنسانية، مُظهِراً ازدواجية صارخة بين شعاراته وممارساته اليومية حتى أمام أعين الرأي العام العالمي

هذه الفروقات الصارخة بين سلوك المقاومة الفلسطينية وازدواجية إسرائيل تكشف عن حقيقة لا يمكن إنكارها الكرامة الإنسانية ليست شعاراً يُرفع أمام الكاميرات بل سلوك يُمارس حتى في أصعب الظروف بينما يلهث الاحتلال وراء التمثيل الإعلامي والتغطية الزائفة للقيم تثبت المقاومة أن الالتزام بالإنسانية لا يتجزأ وأن احترام الموتى واجبٌ مقدس مهما طال النزاع أو اشتدت الحرب وفي هذا التباين يكمن الدرس الأكبر للعالم ليس من يمتلك القوة وحدها من يحدد معايير الأخلاق، بل من يحافظ على إنسانيته حتى في مواجهة أقسى الظروف

ختاما : إن من يدعو إلى حرق الجثامين لا يختلف عن من أشعل أفران الهولوكوست ذاتها التي يذكّرنا بها الإسرائيليون كل يوم ليبرروا مظلوميتهم الكاذبة غير أن المأساة اليوم أن الضحية التاريخية تحولت إلى جلاد يقلّد الجريمة ذاتها دون خجل وحين يبلغ الكيان هذا الحد من التوحش يصبح الحديث عن دولة نوعاً من المجاملة الزائدة لأن الكيانات التي تحترق من داخلها بالحقد لا تعيش طويلاً في ذاكرة الشعوب ولا في خرائط التاريخ

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.