الدفوع الجنائية في قضايا القتل العمد: قراءة قانونية تحليلية


محامي محمد صدقي الغرايبة

تُعد قضايا القتل العمد من أخطر القضايا الجنائية وأكثرها حساسية، لما تمثله من مساس مباشر بحق الإنسان في الحياة، وهو الحق الذي تحميه القوانين والمواثيق الدولية. ولخطورة هذا النوع من الجرائم، حرص المشرّع على إحاطتها بضمانات قانونية دقيقة في مراحل التحقيق والمحاكمة كافة، ومنح المتهم الحق في تقديم دفوعه القانونية التي قد تؤدي إلى نفي مسؤوليته أو تخفيفها أو تبريره.

الدفوع الجنائية في قضايا القتل العمد لا تقتصر على إنكار وقوع الفعل، بل تمتد إلى مناقشة الأركان المادية والمعنوية للجريمة، والظروف المشددة، وأسباب الإباحة، والدفوع الشكلية والإجرائية.

أولاً: الدفوع المتعلقة بالركن المعنوي (القصد الجنائي)

القصد الجنائي هو الركن الجوهري الذي تقوم عليه جريمة القتل العمد، إذ يتطلب أن تتجه نية الجاني إلى إزهاق روح المجني عليه عن وعي وإرادة. ومن أبرز الدفوع التي يثيرها الدفاع في هذا الجانب:
• الدفع بانتفاء القصد الجنائي المباشر أو الاحتمالي، أي أن نية المتهم لم تتجه إلى القتل، وإنما إلى الإيذاء أو الاعتداء فقط، وهو ما قد يؤدي إلى تكييف الفعل على أنه ضرب أفضى إلى موت أو قتل خطأ.
• الدفع بتوافر حالة الانفعال أو الاستفزاز الشديد، حين يقع الفعل نتيجة ثورة غضب أو استفزاز مفاجئ يجعل المتهم فاقداً لقدرته على السيطرة، مما يستوجب تخفيف العقوبة.
• الدفع بانعدام المسؤولية بسبب الجنون أو العاهة العقلية، إذ يؤدي فقدان الإدراك أو الإرادة إلى انتفاء القصد الجنائي، ومن ثم سقوط المسؤولية.

ثانياً: الدفوع المتعلقة بالظروف المشددة

الظروف المشددة كـ سبق الإصرار والترصد ترفع درجة الجريمة وتشدد العقوبة، لذا يسعى الدفاع إلى نفي توافرها عبر:
• نفي ظرف سبق الإصرار، من خلال إثبات أن الجريمة لم تكن نتيجة تفكير هادئ أو تدبير مسبق، بل وقعت فجأة تحت تأثير الانفعال أو الموقف الطارئ.
• نفي ظرف الترصد، بإثبات أن المتهم لم ينتظر المجني عليه في مكان معين أو زمان محدد بقصد قتله، بل حدث الفعل في ظروف عفوية دون إعداد مسبق.

نفي هذه الظروف قد يؤدي إلى تخفيف الوصف الجرمي والعقوبة تبعاً لذلك.

ثالثاً: الدفوع المتعلقة برابطة السببية

تُعد رابطة السببية بين الفعل والنتيجة من العناصر الجوهرية في قيام الجريمة.
ويُثار الدفع بانتفاء رابطة السببية إذا تبين أن وفاة المجني عليه لم تكن نتيجة مباشرة لفعل المتهم، وإنما بسببٍ مستقل، كخطأ طبي جسيم أو حادث لاحق غير متوقع، مما يقطع العلاقة السببية ويؤدي إلى انتفاء المسؤولية عن الوفاة.

رابعاً: الدفوع المتعلقة بأسباب الإباحة (الدفاع الشرعي)

من أهم الدفوع التي قد تُغيّر مسار القضية جذرياً، الدفع بتوافر حالة الدفاع الشرعي، وهو أحد أسباب الإباحة التي تنفي الصفة غير المشروعة عن الفعل.

يقوم الدفاع الشرعي على مبدأ حماية النفس أو المال أو الغير من خطر وشيك دون تجاوز حدود الضرورة، وقد نظّمه المشرّع بدقة في القوانين الجنائية.
ولقيام هذا الدفع، يجب توافر شروط ثلاثة رئيسية:
1. وجود خطر حالٍّ ووشيك الوقوع يهدد حياة المتهم أو ماله أو سلامة غيره.
2. أن يكون الفعل الدفاعي لازماً لردّ الخطر ولا يمكن دفعه بوسيلة أخرى أقل ضرراً.
3. أن يكون الدفاع متناسباً مع جسامة الاعتداء، بحيث لا يتجاوز حدود الضرورة.

فإذا أثبت الدفاع أن المتهم كان في موقف يهدد حياته أو حياة غيره بخطر محقق، وأنه لم يكن أمامه بديل سوى الفعل الذي أدى إلى الوفاة، فإن الركن غير المشروع ينتفي، وتُعد أفعاله مشروعة بنص القانون.
كما قد يدفع الدفاع بوجود دفاع شرعي ناقص، إذا توافرت بعض شروط الدفاع دون اكتمالها جميعاً، وهو ما قد يؤدي إلى تخفيف العقوبة بدلاً من الإعفاء منها كليا.

خامساً: الدفوع الشكلية والإجرائية

تتعلق هذه الدفوع بصحة الإجراءات التي تمت خلال مراحل الضبط والتحقيق والمحاكمة، ومن أبرزها:
• الدفع ببطلان القبض أو التفتيش لعدم صدور إذن قضائي أو لعدم توافر حالة التلبس.
• الدفع ببطلان التحقيق أو الأدلة المستمدة من إجراءات باطلة، استناداً إلى القاعدة القانونية “ما بُني على باطل فهو باطل”.

نجاح الدفاع في إثبات بطلان هذه الإجراءات قد يؤدي إلى استبعاد الأدلة أو حتى بطلان الدعوى برمتها

المحامي محمد الغرايبه

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.