اليونسكو .. تنتصر للقدس صوت العدالة يعلو في وجه التهويد


مهدي مبارك عبدالله

بين فرحة التحرر في غزة وفرحة الانتصار الثقافي في القدس تجلى صوت العدالة من جديد ليؤكد أن للحق جذورًا لا تُقتلع وأن إرادة الشعوب لا تنكسر مهما طال ليل الاحتلال وظلمه ففي الوقت الذي كانت تتنفس فيه غزة الصعداء بعد عامين من الحرب والدمار وعم الفرح أزقتها وأحيائها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار وخروج القوات الإسرائيلية من المدينة

اشرقت في الأفق العربي والدولي بارقة فرح أخرى لا تقل رمزية ولا أهمية تتمثل في انتصار جديد حققته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو للقدس وللحق الفلسطيني حين تبنى مجلسها التنفيذي يوم الجمعة 10 أكتوبر 2025 بالإجماع القرار المتعلق بمدينة القدس القديمة وأسوارها ضمن البند المعنون بفلسطين المحتلة في دورته 22 المنعقدة في باريس وهو قرار يعيد إلى الواجهة العالمية التأكيد على أن القدس بكل ما فيها من تراث روحي وتاريخي وإنساني هي أرض محتلة لا يجوز المساس بتراثها ولا تزوير هويتها ولا الاعتداء على معالمها الإسلامية والمسيحية كما يجدد القرار إدانة اليونسكو لجميع الممارسات الإسرائيلية الأحادية الجانب وغير القانونية التي تستهدف تغيير معالم المدينة وهويتها الحضارية والثقافية

هذا القرار لم يكن حدثًا عابرًا في سجل المنظمة الأممية بل جاء تتويجًا لسلسلة طويلة من المواقف والقرارات التي أكدت فيها اليونسكو عبر السنوات الماضية وقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني في وجه محاولات التهويد الممنهجة فقد سبق للمنظمة أن أدرجت مدينة القدس القديمة وأسوارها على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر عام 1982 باعتبارها من أقدم المدن في التاريخ وموطنًا فريدًا لتعايش الأديان والحضارات كما اعتمدت في أكثر من مناسبة قرارات ترفض الاعتراف بأي سيادة إسرائيلية على القدس وادنت الحفريات والأنفاق التي تقوم باها اسرائيل و تهدد المسجد الأقصى وقبة الصخرة وسائر المعالم الإسلامية حيث اعتبرت كل ما تقوم به سلطات الاحتلال من تغيير للمعالم أو فرض للواقع بالقوة باطلًا ولا يرتب أي أثر قانوني باي صفة كانت

كما أن اليونسكو كانت قد صوتت في عام 2016 على قرار تاريخي أكد أن المسجد الأقصى والحرم الشريف مكان إسلامي خالص لا علاقة لليهود به وقد رفضت استخدام المصطلحات العبرية في الإشارة إليه مما أثار حينها غضب إسرائيل واحتجاجها ومحاولاتها لتجميد تعاونها مع المنظمة لكن رغم ذلك واصلت اليونسكو مواقفها الثابتة وأبقت القدس في صدارة اهتمامها بوصفها إرثًا إنسانيًا جامعًا لا يجوز مصادرته ولا إخضاعه لمنطق القوة والاحتلال وقد تبعت تلك القرارات قرارات أخرى من لجنة التراث العالمي أكدت أن كل إجراءات الاحتلال في البلدة القديمة ومحيطها تشكل خطرًا مباشرًا على القيم الاستثنائية العالمية التي من أجلها أدرجت القدس ضمن قائمة التراث العالمي

وفي الموقف العربي الرسمي كان لافتًا الترحيب الأردني الحار بالقرار الجديد الذي أكد على الدور الأردني التاريخي في الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس حيث شدد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأردنية على أن القرار يعكس الإجماع الدولي على رفض سياسات الاحتلال ويعيد التذكير بضرورة احترام الوضع التاريخي والقانوني القائم في المدينة المقدسة وهو ما يشكل في جوهره انتصارًا سياسيًا ومعنويًا للديبلوماسية الأردنية والفلسطينية التي واصلت العمل الدؤوب في المحافل الدولية للحفاظ على مكانة القدس وحمايتها من محاولات الطمس والتهويد

ويحمل هذا الانتصار الرمزي في توقيته دلالات عميقة فبينما تحتفل غزة بوقف الحرب وتضمّد جراحها يأتي صوت العدالة من باريس ليقول إن الإنصاف الثقافي والتاريخي لا يموت وإن إرادة الشعوب قادرة على فرض حضورها حتى في أروقة المنظمات الأممية والقدس التي حاول الاحتلال أسرها في الجدران والاستيطان والحواجز تخرج اليوم إلى النور مجددًا عبر قرار أممي يعيد إليها جزءًا من حقها المعنوي والسياسي ويمنح الفلسطينيين دفعة جديدة لمواصلة نضالهم من أجل الحرية والكرامة والسيادة الوطنية

إن قرار اليونسكو الجديد هو بمثابة رسالة واضحة إلى العالم بأن الاحتلال مهما طال فإن محاولاته لطمس هوية القدس ستفشل وأن التاريخ بدأ يستعيد شيئًا من وعيه تجاه هذه المدينة التي تمثل قلب الإنسانية النابض ومهد الرسالات السماوية كما أنه يذكر بضرورة ترجمة هذه المواقف الدولية إلى أفعال ملموسة تحمي التراث الفلسطيني وتوقف الانتهاكات الممنهجة التي تهدد طابعه الإنساني فالقرارات وحدها لا تكفي ما لم تُترجم إلى ضغط سياسي وقانوني مستمر على الاحتلال

وفي الختام فإن انتصار اليونسكو للقدس ليس مجرد بند على جدول أعمال أممي بل هو انتصار للذاكرة والوجدان والهوية العربية ولرسالة العدالة الثقافية التي طالما نادت بها المنظمة وهو تأكيد بأن الحق قد يغيب حينًا لكنه لا يموت وأن صوت العدالة مهما خفت فإنه يعلو في النهاية ليكسر جدار التهويد والتزوير وإن قرار اليونسكو شاهد جديد على أن العالم وإن تأخر في إنصاف القدس فإنه لا يستطيع تجاوز حقيقتها الأبدية مدينة السلام والتاريخ والرسالات السماوية فكما انتصرت غزة بصمودها تنتصر القدس بعدالتها وتراثها وبهويتها التي لم تنحن أمام العواصف لأن نورها أعمق من أن يُطفأ وأقدم من أن يُمحى من ذاكرة الزمان ومن ضمير الإنسان

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.