انعدام الانسانية بأليات مكافحة البسطات العشوائية


مهدي مبارك عبدالله

 

بقلم / مهدي مبارك عبد الله

استهلالا نقول مؤلمة جدا من الناحية ( الانسانية البحثة ولا اقول العاطفية المتحيزة ) مقاطع الفيديو التي اظهرت ووثقت مؤخرا ضمن حملة نفذتها امانة عمان الكبرى يوم الاربعاء الماضي على البسطات في مناطق ماركا وجبل النصر ووادي الرمم في احياء العاصمة عمان قيام كوادر الامانة تحت بصر وحراسة وصمت ( رجال الأمن العام ) بإلقاء الخضار والبضائع على الطريق وفي مركبة غير مخصصة لذلك ( سيارة جمع نفايات ) وبطريقة عشوائية عملت على اتلاف معظم المضبوطات خاصة الخضار والتي لن يتمكن اصحابها من استردادها بعد ذلك مما اثار حالة واسعة من الغضب والاستياء والانتقاد لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي من السلوك المرفوض والالية الهمجية التي تم فيها ازالة البضائع عن البسطات باعتبارها وسيلة بشعة ومنظمة لترهيب الناس وقطع الارزاق اكثر منها طريقة صحيحة لتطبيق الانظمة والتعليمات وهي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة بحسب وجهة نظرنا المتواضعة

وبداية معلوم بان البسطات في مدن المملكة كافة ظاهرة موجودة منذ القدم كما هي في كل مدن العالم حتى في امريكا هنالك بسطات في نيويورك ومانهاتن ولا يوجد قوات ملاحقة ومنع من البلدية والشرطة تحاصرهم وتصادر ما يملكون او تضايقهم في معيشتهم ورزقهم وتتلف بضائعهم كما يجري عندنا ومن الغريب انهم ينطرون للبسطات كظاهرة ( حضارية وثقافية ومعرفية واجتماعية وتراثية ) حيت تقام البسطات في اماكن ( محددة منظمة ونظيفة ) جميع الاعراق والملل والشعوب ترتادها وتجتمع فيها ويشترون البضائع ويطلعون على بعض العادات والتقاليد المتنوعة ففي مانهاتن يوجد سوق عظيم خاص للصينيين يبيعون فيه كل بضائع الصين وكأنك تعيش في بكين وكذلك للمكسيكيين والكوبين وغيرهم من الجاليات اسواق مشابهة

لا ينكر أي منصف حصيف ان ظاهرة انتشار البسطات في مدينة عمان وغيرها من محافظات المملكة غير حضارية ( بحسب مفهومنا التقليدي ) وهي تشهد تضخمًا متسارعا وان هناك مواقع تكاد تكون مغلقة بالبسطات وبشكل دائم ويومي وباستقواء واضح على ( الوضع العام للمدينة ) وهي نوع من أنواع الفساد المبطن وتواجدها المستمر يسيء لحق المواطن باستعمال الرصيف ويعرض حياته لخطر الدهس في الطريق كما انها تؤثر على أزمة السير والنظافة العامة فضلا عن كونها أصبحت تجارة يساء استعمالها من قبل البعض في ( تجارة المخدرات وأعمال الدعارة وبعض أشكال التهريب ) وهنالك وجود لمافيات يمتلكون بسطات ويقومون بتأجيرها مقابل مبالغ مالية قد تصل إلى أكثر من (700 دينار شهريا ) وفي المقابل ايضا هنالك العديد من الشكاوي والممارسات غير الاخلاقية تحدث للمتسوقات من خلال تعرضهن لمضايقات سلوكية خاطئة فضلا عن الكثير من عمليات الابتزاز التي تحدث بطرق غير شرعية و هنا يجب ان نفرق ( بين الفاسد الحقير والمواطن الفقير ) كما يتوجب احترام وتقدير مطالبات العديدة من اصحاب المحلات التجارية التي تدفع ضرائب المبيعات والدخل ورسوم التراخيص ورواتب عمال بتأثير استمرار وضع البسطات السلبي على تجارتهم واعمالهم

حتى ان جلالة الملك عبدالله الثاني في احدى السنوات اثناء زيارته إلى منطقة وسط البلد لأداء صلاة العيد في المسجد الحسيني ابدى استيائه من الحالة البيئية المتردية وانتشار البسطات في منطقة وسط البلد حيث اوعز على الفور لجميع الجهات المعنية بالعمل على تحسين الأوضاع البيئية ومعالجة مشكلة البسطات بالسرعة الممكن

امام كل ذلك تبقى المعالجات القاصرة وغير المهنية بأسلوب واليات ( الملاحقات والقسوة والشدة والاتلاف للبضاع ) وحدها غير كافة ولن تجدي نفقا وستقود حتما الى ( المصادمات والعنف ومقاومة الموظفين ورجال الأمن ) وبما لا تحمد عقباه وإن خبرة البلديات بما فيها أمانة عمان في اجراءات الملاحقة والقمع للبسطات ينبغي أن تكون كافية لكي تقنع المسؤول المتعنت باستحالة نجاح عمليات المكافحة هذه وبهذه الطريقة الاستعراضية المرفوضة

ثم على صاحب القرار أن يوازن بين مسألة وجود البسطات على علاتها ومساوئها وبين الملاحقة والمضايقة والاتلاف والحبس وما تتسبب به من توتر وقلق وأزمات مضطربة تتوزع على البيوت الفقيرة والمستورة وصولًا إلى اقصى مستويات الخنق والضغط والتأثير التي كان مثالها حالة الشاب ( أنس الجمرة ) العام الماضي في محافظة إربد والذي اختار أن ( يفارق الحياة منتحرا ) بعد أن اضطر لمفارقة بسطته ومصدر رزقه وهي ليست حالة الوفاة الوحيدة بسبب ملاحقة البسطات ففي عام 2009 توفي شاب اخر من حي الطفايلة بعد اصطدام مع أجهزة الأمن بسبب بسطته في جبل الحسين كما جرى تداول أخبار عن وفاة شاب ثالث في ماركا حيث نفت الأمانة في حينه أنها المتسبب بالوفاة غير أنها أقرت أن الشاب ( أصيب بسكتة قلبية بعد حملة ملاحقات من قبل موظفيها )

امانة عمان وباقي البلديات في المحافظات معنيون مباشرة بالتوقف عن تلك التصرفات القاهرة واستبدال مصادرة البضائع بحلول عملية لهؤلاء الذين لم يجدوا مكاناً سوى الشارع لكسب قوت يومهم والعمل على تخصيص اماكن لهم يمكنهم فيها كسب رزقهم بأسلوب شريف ومحترم من خلال توفير محلات واسواق شعبية مجانية ومنتظمة تستوعب البسطات وتتوفر فيها كامل الخدمات والبنية التحتية اسوة بباقي مدن العالم بالرغم من تعقيدات وربما استحالت تأسيس ( سوق ناجح للبسطات ) عندنا في العاصمة او غيرها والتجارب الفاشلة تتحدث عن نفسها في كل مكان من ربوع الوطن ففي عمان أقيمت سابقا أكثر من عشرة أسواق لم يكتب لأي منها النجاح وكذلك الأمر في جرش والمفرق وإربد والكرك والزرقاء وفي جميع هذه الحالات كانت البلديات تتحمل التكلفة المالية وتبقى ( البسطات على حالها تقاوم ازالتها ) من مواقعها وربما يعود ذلك في الأصل إلى ( الفشل التنموي المتلاحق والمتراكم منذ سنوات في عمل واداء البلديات عموما وامانة عمان بشكل خاص ) وهو ما تجسد حكما في السياسات الكلية وليس في الشارع والبسطات

الكل يقول لماذا لا تطرح قضية ( التبسيط للنقاش العام ) خارج إطار الملاحقات والمداهمات والاعتقال والاتلاف ولماذا ايضا لازال التعامل معها واتخاذ القرارات بصددها يتم بصورة ( بيروقراطية مكتبية ) جامدة وفردية رغم أن تنفيذها يجري في الشارع وامام الجميع حتي بلغ الحماس برئيس إحدى البلديات الكبرى أن قال ( إن مكافحة البسطات I,قرار دولة ) وكأن الدولة لا تدري بأوضاع الناس المزرية التي اوصلتم اليها بالتخبط والجباية وسوء التقدير والتخطيط والتوزير والمحاباة والمحسوبيات والتنفيع وغيرها مما لا تسع سرده او ذكره

بلا ريب أن من واجب الجهات الرسمية ( امانة عمان والبلديات ) الحفاظ على القوانين وعلى حقوق مختلف الأطراف في تطبيق التعليمات التي تمنع العمل غير المرخص وغير المراقب وغير المسجل رسميًا لكن في ظروف الأزمة الراهنة التي تعيشها البلاد والعالم ومع استمرار اخطار وباء كورونا وخاصة فيما يتعلق بالبطالة وندرة فرص العمل وغلق كثير من القطاعات الحيوية وتسريح الاف العاملين ( يتعين أن تكون هناك درجة عالية من التفهم والتعاون والمرونة ) كما يحصل في الواقع مع بعض النشاطات الرسمية الكبيرة حيث تعطى مثلًا امتيازات وإعفاءات واستثناءات لكبار المستثمرين ويجري أحيانًا تغيير القوانين والتعليمات في سياق تشجيع النمو والحركة الاقتصادية لخدمتهم وتسهيل سبل اعمالهم وحياتهم

ملف البسطات التي شهدت مؤخرا تغولا على الأرصفة والباعة والحركة المرورية والتجارية وتنظيم المدينة شائك جدا وواقعه مؤلم والحديث عنه فيه قصص حقيقية لمواطنين شباب وشياب وحتى نساء ترويها حالة البؤس والشقاء في وجوههم وأيديهم المتعبة قبل أن ترويها ارتجافة أصواتهم المحبوسة ونظرات عيونهم الغائرة التي طوت في جوفها عناء الأعمال ( المجهدة والهموم المتجددة ) من اجل توفير لقمة العيش لهم ولأسرهم ومن يعيلون وكثيرة هي الممارسات غير الانسانية التي ( جرت ولا زالت ترافق تنفيذ اليات ازالة البسطات ) من خلال المداهمات المفاجأة ودون سابق انذار أو ابلاغ مسبق تتم مصادرة البسطات بما تحمله من بضاعة واما تتلف مباشرة كما شاهدنا بالفيديو الأخير او تحتجز وتباع بالمزاد العلني وبما يلحق خسارة مالية كبيرة بأصحابها خصوصا بعد ازمة جائحة كورونا التي ما تزال تلقي بظلالها الثقيلة على قطاعات العمل المختلفة

وتعطل العديد من المواطنين عن العمل وتحرمهم من مهنهم مما اضطر بعضهم إلى البحث عن أي عمل لسد التزاماتهم الأسرية والمعيشية وأن الظروف الاقتصادية الصعبة دفعتهم الى العمل على البسطات كملاذهم اخير للحصول على مصدر دخل في ظل حالة الركود التي تشهدها بعض القطاعات وعلى امانة عمان والبلديات أن تراعي ظروف المواطنين في الوقت الراهن بالذات

والسؤال المطروح هنا لماذا لا يتم منح تصاريح قانونية من قبل المعنيين في الامانة والبلديات لأصحاب البسطات على الطرق الخارجية والداخلية والفرعية وفي المواقع غير الخطرة او المكتظة لكي نتخلص في هذه الاساليب غير الانسانية التي تمس كرامة طبقة من المواطنين تعتاش من ورائها اضافة الى تأمين بدائل لأصحاب ( الحالات الإنسانية الحقيقية ) عن طريق التواصل عبر القنوات الرسمية مع الامانة او البلديات سيما وان معظم هؤلاء تعد البسطات مصدر رزقهم الوحيد وحالتهم المادية لا تتيح لهم فتح محال او استئجار اكشاك خاصة اذا كان تواجدهم على نلك الطرق والمواقع لا يشكل اي معيقات او اساءة للمنظر العام

وبغير خطوة انسانية رحيمة ونظرة مسؤولية واعية وامينة لن يكون البعض قادرين على اطعام اطفالهم وتامين التزامات حياتهم وفي مقدمتها اجرة بيوتهم وسيدفعون ههم واسرهم للخروج الى الارصفة للتسول في وقت لا زال الكثيرون من أصحاب البسطات الذين ( لم ينتحروا بعد ولم يشنقوا أنفسهم ) يقولون أنهم يتعرضون يوميا لحالات البطش والخاوة والرشوة وان الموظفون المتجولون لا يرحمون احداً وانهم لا يرون إنسانية ولا رحمة فلا تجعلونا بهذه الوسائل والاساليب العقيمة نخسر شبابنا وابنائنا في لحظة ضيق وضعف ايمان وفقدان امل وهم يهدرون حياتهم ويعدمون انفسهم اعتراضاً على جوعهم وقلة حيلتهم وظلمهم وقهرهم ومحاربة لقمة عيشهم وقوت يومهم وكد يمينهم ولا تجعلوا الماسي تتكرر علينا من جديد ابتداء من البوعزيزي في تونس ونهاية بأنس الجمرة في اربد رحمهما الله

وفي الخاتم نذكر بان الرحمة هي صفة من صفات الحق الرحيم حيث قال تعالى ( رحمتي وسعت كل شئ ) وفي اية اخرى قال العلي القدير ( ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ) كما قال رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء ) وقال ايضا ( لا يرحم الله من لا يرحم الناس ) ولعله من المفيد هنا ان نستذكر امام المسؤولين قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما اوقف ( حكم قطع اليد ) في حق السارق في عام المجاعة التي حلت بالبلاد والعباد ( انتبه يا صاحب القرار والمسؤول ) أوقف نصاً ( شرعياً ) مقدساً غير قابل للنقاش والتأويل وليس تعليمات وانظمة واوامر من أجل أن لا يظلم من سرق ليطعم أطفاله الجياع

اللهم يارب ولي امورنا خيارنا ولا تولي امورنا شرارنا واللهم اهدي ( مسؤولينا ) وبصرهم سبل الرحمة والانسانية واكفنا وبلادنا شر مضلات القهر والظلم والفتن ما ظهر منها وما بطن انك سميع قريب مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.