بكرج القهوة


الدكتور رشيد عبّاس

بقلم / الأستاذ الدكتور رشيد عبّاس

يحزنني (بكرج) القهوة نتيجة لتنقله كثيراً في مناسباتنا الاجتماعية, فتارة تجده نظيفاً في جاهات الخطوبة, وتارة تجده مشوشاً في الصلح بين العشائر, وتارة أخرى تجده ضاعاً في الأعراس, وأكثر من ذاك تجده متعب في بيوت العزاء.
بكرج القهوة في جاهة خطوبة فتاة لشاب, يكون عندها محفوفاً باهتمام بالغ, حيث أنك تجده أخذ كثير من العناية في الإعداد والتنظيف, وتجد عملية التشييك عليه من قبل أهل الفتاة أكثر من مرة, وقد يتم تركيز حبات الهال وعيدان القرنفل فيه لتحسين وتجويد مذاقه, مع الاستمرار في عملية تفقد أحكام اقفاله أكثر من مرة, كي تبقى قهوته بدرجة حرارة عالية, لتنسجم مع شوق وحرارة كل من الخاطب والمخطوبة.
وبعد مدة من الزمن تجد نفس البكرج حاضراً في صلحه بين عشيرتين, لكن هذه المرة تجده قلقاً مشوشاً غارقاً في الهموم, يضعونه مكرهاً عابساً أمام (قائد) الصلح, ذلك القائد الذي خاض معارك صلح عديدة, وكان في تلك المعارك بين كرٍ وفر, نعم يبقى بكرج قهوة الصلح بين عشيرتين يتمايل ذات اليمين وذات الشمال, وأحيانا تجد صعوبة في فتحه, حيثُ أنه أُقفل بإحكام شديد, وتجد معايرة (صبّتهِ) مدروسة بعناية فائقة.
ومع مرور الأيام قد يظهر لك هذا البكرج من جديد في عرس من الأعراس, ليظهر متراخياً منسحباً, حيث يتم أقفاله بشيء من الرخاوة وبرودة الأعصاب, قهوته عادة ما تكون باردة, وقد يتفاجأ الجميع بضياعه أو ربما اختفاءه شيء من الوقت في أحد الزوايا نتيجة لكثرة نقاد قهوته, مع احتمالية نفاذ قهوته في الساعات الأولى من عنتريات العرس.
وأخيراً, وبعد جولة هذا (البكرج) الطويلة المضنية.. من جاهة إلى جاهة, ومن خطوبة لخطوبة, ومن صلحه إلى صلحه, تجده في آخر المطاف يستقر في احد بيوت العزاء وما أدراكم ما بيوت العزاء..! في مثل هذه البيوت عادة ما تبدأ معاناة هذا البكرج الحقيقية, ونفاذ صبره, فهو أمام ثلاثة أيام طويلة بين القال والقيل, ثلاثة أيام بين محللي وخبراء السياسة والاقتصاد, ثلاثة أيام بين الغيبة والنميمة, ثلاثة أيام بين التربّع على الكراسي تارة وبين تمرجح الأرجل عليها تارة أخرى لساعات متأخرة من الليل.. وقد يتراجع هذا البكرج بين زحمة مناسف العزاء من جهة, وبين رواية يسردها (كبيرهم) الذي علمهم السحر.
اليوم نقف مع (بكرج) قهوة الصباح, هذا البكرج ليس كبكارج التي تُصنع في جاهات الخطوبة, أوفي صلح العشائر, أوفي مناسبة الأعراس, أوفي بيوت العزاء, هذا البكرج تصنع قهوته مع بداية خيوط الشمس الذهبية.. هذا البكرج مركون بهدوء على بلكونة شمالية الوجه بنصف دائرية, تتربع على الطابق الثاني ومطّلة على حديقة أزهار وورود, تتكئ على تلك البلكونة شجرة قديمة متواضعة, حطّ عليها رف من عصافير الصباح المغردة.
وبعد..
(فناجين) بكرج قهوة الصباح ليست كرتون..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.