بيتنا القديم في الموروث الشعبي


الباحث محمود حسين الشريدة

 

تعد بيوت الطين والحجر أحد فنون العمارة القديمة التي تعكس التطور الحضاري في منطقة عجلون ، تلك البيوت المتلاصقة التي بنيت على الأرض ترسم لنا معالمها بتجانس بهيج لم ترهق كاهل أصحابها في أنشائها ، بل كانت تلك البيوت تعتمد في بنائها على الحجر الدبش ، مع استخدام الطين المضاف إليه التبن لزيادة صلابة البناء وتماسكه  .

يرتكز سقف البيت على عدد من القناطر الحجرية المبنية من الحجر المشذب بعناية ، يعتمد عددها على حجم العائلة التي ستسكن هذا البيت ، فقد تكون قنطرة واحدة ، أو قنطرتين ، أو ثلاث قناطر . يقوم على بنائها عمال مهرة ومتخصصين في بناء هذا النوع من البيوت ، وعلى الاغلب كانوا يحضرون من الاماكن المجاورة .

تميزت هذه البيوت بالدفء في فصل الشتاء ، والبرودة في فصل الصيف ، تميز تصميمها الداخلي بسماكة جدرانها وارتفاعها ، وكانت تؤدي وظائفها بكل رتابة ودقة ، جدرانها السميكة مع القناطر تحمل السقف بكل اريحية ، على الرغم من ثقل السقف وما يحوية من خشب سيقان الاشجار واغصانها واعواد القصيب وكمية التراب والطين والتي قد تصل الى سماكتة حوالي نصف متر .

كان كل جزء من مساحة البيت الداخلية تُؤدي وظيفة معينة ، فمثلا يقع المطوى في الواجهه الرئيسية من جدار البيت الداخلية والمواجهه للمدخل ، تطوى عليه  فراش الاسرة ، الفرشات واللحف التي تصنع من صوف الغنم ، والبسط والمفارش التي تستخدم لفرش الأرضية في أوقات الشتاء ، كما يوجد في الجدار ايضا خزانة اوخزانتين في نفس الواجهه ، تستخدم لحفظ المواد الغذائية التي كانت تتم صناعتها يدوياً ( كاللبن واللبنة والجبنة والسمن البلدي والكشك والخبز وغيرة ) ، كما يوجد في الجدار من الداخل ومن الخارج فتحه توضع بها جرة تستخدم لحفظ الماء ، وكانت تسمى قديماً الخابية يتم تثبيتها على ارتفاع من سطح الأرض ، وتستخدم للأغراض المنزلية كالشرب والطبخ .

أما ارضية البيت فتقسم الى قسمين : القسم الاول : الموالي لمدخل البيت تسمى ( قاع البيت ) ومن الوظائف التي تتم في هذا المكان ، مبيت  للفرس والفدان والمواشي وخاصة في فصل الشتاء ، أما في بقية الفصول فمكانها خارج البيت ، كما يوجد في احدى الواجهات (التبان او المتبن ) وفيه يحفظ التبن كعلف للحيوانات ، ومكانه بين قنطرتين وله فتحة مناسبة لاخراج التبن منها ، ويكون متصل مع السقف وله فتحة مناسبة في اعلى السطح  لتفريغ التبن بها ، ومقابله بين القنطرتين توجد سدة الحطب يحفظ عليها الحطب لاستخدامه في فصل الشتاء للطبخ والتدفئة .

والقسم الثاني : من ارضية البيت يسمى المسطبة ، وهي المكان المرتفع من ارضية البيت ، ترتفع عن قاع البيت بحوالي 80-100 سم ، لئلا تصل الى المسطبة  بعض المواشي التي تبيت في قاع البيت ، تصل اليها من خلال درجة أو درجتين من قاع البيت ، والمسطبة  المكان المخصص للنوم والطعام والسهرة واجتماع العائلة ، تتوسط المسطبة حفرة تسمى النقرة يشعل فيها النار للطبخ والتدفئة ، وحول النقرة تجلس العائلة وتاكل وتنام ، كما تؤدى العديد من الوظائف فوقها ، فبالاظافة الى وجود المطوى يتوسط الواجهه الرئيسية ، يوجد بجانبه الرف ، وهو عبارة عن عدد من الحجرات المبنية من طين الصلصال المخلوط بشعر الماعز او التبن ، ترتكز على اوتاد تم تثبيتها في الجدار بارتفاع مناسب ، بحيث يصعب على الاطفال الوصول اليه ، تحفظ داخل هذه الحجرات الكثير من مؤنة البيت وخاصة المصنعه محليا ، كما يحفظ بها ادوات الطبخ من صحون وطناجر وغيرها ، وفوق هذه الحجرات (الرف) مساحة واسعة لخزن مادة الرمان للاحتفاظ به الى فصل الشتاء ، وفي اسفل الرف يوجد عدد من الاوتاد تعلق بها الادوات الجلدية مثل الخافة والظبية والعكة ، لحفظ مونة البيت من الحبوب مثل الفريكة والعدس والبرغل والحمص والفول وكذلك الزيت والسمن الذي يحفظ بالعكة .

ومن الوظائف التي تُؤدى فوق المسطبة ، حفظ مونة البيت من الحبوب والطحين في الكواير ، تُعد الكواير ومفردها كوارة ، مخازن الحبوب وخاصة القمح ، فكانت المستودع الأساسي في المنزل ، تصنع من الطين للحفاظ على القمح من الرطوبة وعوامل الطبيعة ، وكانت ذات أحجام مختلفة ، تتسع لكميات كبيرة من القمح تصل إلى 6 شوالات من القمح أي نصف غرارة ، وكانت تبني بشكل مزدوج بين القناطر داخل البيت ، وكانت تصنف إلى صنفين، واحدة من أجل الاستهلاك المنزلي ، والثانية من أجل أن تكون مخزن بذار للسنة القادمة ، والكوارة هي حاضنة كبيرة مصنوعة من الطين بشكل مستطيل ترتفع للأعلى ، لها فتحة من الأعلى وفتحة من الأسفل ينزل منها القمح بمجرد فتحها.

وعندما تحتاج الأسرة للطحين يفتحون باب الكوارة ويستخرجون حاجتهم من القمح ، ويعبئونها في أكياس القنب أوالخيش، ويأخذونها على ظهر الحمير للمطحنة ، التي كانت تدار بمساقط الماء في احواض أودية عجلون .

يقوم اصحاب البيت ببناء الكوارة في المنزل من الطين الذي يجبل من الماء والتراب والتبن او شعر الماعز لزيادة متانته ، وبعد الانتهاء من عملية جبله وتحضير الطين ، حين يكون في مرحلة طرياً ليستطيع البنّاء تحريكه كما يريد، يقوم البناء بوضع عارضة خشبية بين القنطرتين بشكل عرضاني ، ووضع حصيرة من سيقان القصيب في الطرف الخارجي للعارضة ، ثم يقوم بتلبيسها بالطين الطري والمعد والجاهز حتى نهايتها العلوية من الداخل والخارج ، او يترك لها فاصل تحت السقف ، لتعبئ بالقمح من الداخل ، وتكون قاعدتها مرتفعة عن ارضية البيت . بارتفاع حوالي حوالي 70 سم  ، وتستغل هذه المساحة ليخزن بها جرار الزيت ، ولها فتحتان علوية لصب القمح وتخزينه ، وسفليه عند قاعدتها لتستطيع المرأة إخراج القمح لتجهيزة للطحين.

يوجد لهذا البيت شباك واحد على مستوى نهاية راس الباب يقع على الحافة الخارجية للجدار، الشباك واسع مقسوم الى فتحتين يفصل بينهم عامود من الحجر المشذب ، يغلق الشباك بباب يتم صنعه من ألواح خشبية متصلة بعضها ببعض ، ويوضع عليها شبك حديدي لحمايتها ، ويتم التحكم بفتح وإغلاق الشباك من خلال قضيب من الحديد الخفيف يسمىالشنكل . يخزن في ارضية الشباك مادة الرمان للاحتفاظ بها اطول فترة ممكنة .

اما مدخل البيت فيصنع له باب من الخشب الثقيل يثبت مع بعض بصفائح معدنية ، وبمحور قوي من ساق من النوع القوي وله قفل كبير (سكرة ) ومفتاح كبير الحجم ، وزيادة بالامان يضاف له شنكل حديدي مثبت في جدار الباب الداخلي لزيادة الحرص والامان للبيت .

تتميز هذه البيوت بارتفاع سقفها من الداخل ، إضافة إلى أن الأبواب والشبابيك مبنية على شكل أقواس ، وذلك لتخفف من الضغط على الباب والشباك لضخامة الجدار وعدم استخدام الحديد والاسمنت  في للبناء .

يحيط بهذا البيت سور من الحجر والطين ، كما يوجد بأحد أطراف البيت مكان خاص يستخدم للصاج لإنتاج خبز الشراك ومكان آخر ويسمى الطابون لخبز الطابون .

وبعد الانتهاء من عملية البناء كانت تقوم  النسوه بتبييض البيت ، ويتم ذلك من خلال قطع نوع من الحجارة والصخور الطرية ذات اللون الأبيض، ومن ثم دهن البيت بها باستخدام نبات يسمى المكانس ويستخدم هذا النوع من النباتات في تبييض البيوت وتنظيفها أيضاً.

تدل هذه المباني على الفن المعماري الذي عاشه أبناء منطقتنا  في الحقبة القديمة ، حيث عاش في هذه البيوت سابقاً جميع أفراد الأسرة ، والأبناء المتزوجون وغير المتزوجين ، حيث طبيعة أعمالهم الزراعية تقتضي منهم أن يكونوا متواجدين للقيام بأعمال الزراعة والحصاد وتربية الماشية .

من يرى تلك البيوت يستعيد شريط الذاكرة ويقف أمام منجزات الاباء والأجداد متأملاً الإبداع ، ويحن للعراقة ويأنس للماضي الجميل، ففي هذه البيوت عاشنا وعاش آباؤنا وأجدادنا .

 

المصدر :

عبق الثراث في متحف الوهادنة للتراث الشعبي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.