بين تعهدات ترامب وتهديدات نتنياهو من يحكم الغابة ؟


مهدي مبارك عبدالله

المنطقة اليوم تقف على مفترق طرق حرج حيث تتقاطع تعهدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف انتهاك سيادة الدول مع تهديدات علنية وصاخبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مشهد يبدو كصراع مفتوح داخل غابة سياسية تحكمها القوة العارية بعيدًا عن القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية وفي الوقت الذي يسعى فيه البيت الأبيض لامتصاص الغضب العالمي الذي أثارته الغارة الإسرائيلية على الدوحة يظهر نتنياهو وكأنه يختبر حدود غياب الردع معلنًا صراحة قدرة إسرائيل على ضرب أي عاصمة عربية تستضيف قيادات المقاومة في هذه اللحظة الحرجة يتبادر سؤال محوري من يضع القواعد ومن يحكم اللعبة هل ترامب بتعهداته المراوغة أم نتنياهو بتهديداته الفجة أم أن العرب الذين لا يزالون أسرى بيانات الاستنكار و الإدانة المتكررة دون تنفيذ

منذ البداية حاول ترامب أن يظهرنفسه كحامٍ للقانون الدولي متعهداً بعدم تكرار ما جرى في الدوحة لكن ذاكرتنا السياسية تؤكد أنه رجل الانسحابات المفاجئة من الاتفاقات الكبرى فمن اتفاق باريس للمناخ إلى الاتفاق النووي مع إيران وتعهده هذا جاء في ظل تجارب عديدة أثبتت أن واشنطن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل تتحول تصريحاتها إلى مجرد كلمات بلا أفعال ما يجعل الرأي العام العربي متشككاً في أي تعهد أميركي يرفع شعار ضبط النفس

على الجانب الآخر لم يكتف نتنياهو بالتصعيد الكلامي بل أعلن سياسة جديدة تتجاهل سيادة الدول المضيفة لقيادة المقاومة حيث يراها مجرد عائق يمكن تجاوزه وان تهديده الاخير لم يكن موجهاً لحركة حماس وحدها بل شمل دولاً بأكملها بفرضً معادلة جديدة إما تسليم قادة المقاومة أو مواجهة الغارات المدمرة وهذه السياسة تمثل نقلة خطيرة يظهر الاحتلال فيها وكأنه فوق القانون الدولي ويتصرفا بمنطق الغاب حيث الأقوى يقرر متى وأين يعتدي

التباين الواضح بين تعهدات واشنطن وحدة تهديدات تل أبيب يكشف تناقض السياسة الأميركية في المنطقة فعلى الرغم من رفع شعارات ضبط النفس علناً تمنح واشنطن إسرائيل هامش حركة شبه مطلق وتعاملها كحليف استراتيجي ورأس حربة للمصالح الغربية لذلك أي حديث عن خطوط حمراء لا يتجاوز حدود الإعلام ما لم يترافق مع إجراءات عملية وميدانية على الأرض

رد فعل قطر الدولة المستهدفة جاء سريعاً وقوياً بإعلانها البدء بخطوات قانونية دولية ودعوتها إلى قمة عربية إسلامية للرد لكن هذه الخطوات كشفت ثغرة أمنية خطيرة حول كيف تسلل الاحتلال لشن ضربة بهذه الضخامة على أرض عربية دون تحرك أنظمة الدفاع أو التحالفات العسكرية هذا السبات الأمني قد يفتح الباب أمام تكرار مثل هذه المغامرات وربما بصورة أكثر خطورة في المستقبل

في ظل هذا المشهد المعقد يبرز سؤال استراتيجي هام هل يمكن أن تتحول فكرة إنشاء تحالفات دفاعية عربية إسلامية إلى واقع ملموس سيما وان الحديث عن تشكيل ناتو عربي باكستاني أو جيش عربي مشترك لم يعد مجرد شعارات دبلوماسية بل ضرورة وجودية تحتمها الوقائع حيث تختبر إسرائيل ردود الأفعال خطوة بخطوة وكلما وجدت صمتاً أو تواطؤاً زادت جرأتها وغطرستها
التهديدات الإسرائيلية لم تعد مجرد تدوينات دعائية أو تصريحات انتخابية بل ارتقت إلى مستوى عملي بتحويل الضرب خارج ساحة الصراع المباشر وان استمرار هذا النهج الذي تتماهى فيه موازين القوة مع منطق الغاب سيؤدي إلى فوضى إقليمية عارمة تحول مدن العرب إلى أهداف محتملة في لعبة نار لا تنطفئ بالتصريحات ولا تُخمد بالوعود الأميركية المتقلبة فمن يجرؤ على قصف الدوحة اليوم سيجرؤ غداً على استهداف القاهرة أو الرياض أو أنقرة أو أي عاصمة أخرى لا تراها متوافقة مع مصالحه الغاشمة ومن يختبر صمت العالم مرة سيعتبر ذلك إذناً مفتوحاً للعدوان مرات اخرى بعدما تحولت اسرائيل إلى محطة للإجرام العالمي

 

على المستوى الشعبي أحدث الاعتداء على الدوحة صدمة عاطفية وغضباً واسعاً ورافقه رفع أصوات تطالب ببناء قوة عربية رادعة حيث لم يعد مقبولاً أن تتحول السيادة الوطنية إلى ورقة ابتزاز ولكن إذا لم تجد هذه الأصوات صدى عملياً في أروقة الحكومات ستبقى مجرد صرخة في فراغ وتجاهلها سيكلف المنطقة الكثير على المدى المتوسط والبعيد

العرب والعالم باتا بين خيارين لا ثالث لهما إما الرضوخ لمنطق الغاب الذي يفرضه نتنياهو ويغطيه الصمت الأميركي أو بناء معادلة ردع جماعي تحمي السيادة الوطنية وتعيد الاعتبار للقانون الدولي ولتحقيق ذلك لا بد من تحرك دبلوماسي جاد عبر الضغط لعقد جلسة عاجلة في مجلس الأمن وربط أي انتهاك جديد بعقوبات ملموسة كما ينبغي تفعيل المسار القانوني برفع دعاوى أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضد قادة الاحتلال بتهمة الاعتداء على سيادة الدول وفي الوقت ذاته لا بد من تطوير منظومات دفاع جوي إقليمية مشتركة لحماية العواصم العربية من أي عدوان مماثل والتحرك نحو بناء تحالفات ردع عربية إسلامية حقيقية تشمل تدريبات مشتركة وقوة تدخل سريع كما يجب استثمار الغضب الشعبي والإعلامي في فضح حقيقة إسرائيل كدولة مارقة تتصرف فوق القانون

غرور نتنياهو وتفلته من المساءلة جعلاه يختبر حدود الصبر الدولي ووعود ترامب مهما بدت مسموعة ما لم تترافق مع آليات ردع ملموسة ستظل حبراً على ورق وليس أمام العرب اي خيارات بديلة توقف منطق الغاب ما يبقيهم بمثابة شهود على تحويل سيادتهم إلى هدف مفتوح في لعبة ابتزاز لا تنتهي ولم يعد في الوقت متسع للمناورات الخطابية ولا بد من التحرك الآن بمقاييس القوة والقانون الدولي لمنع انزلاق المنطقة إلى فوضى شاملة ووضع حداً لحكم الغابة الذي يحاول نتنياهو فرضه على الجميع بعد هذا التحول الذي أعاد رسم معادلات الأمان في المنطقة حيث لم يعد التهديد مجرد أداة ضغط بل صار سبيلاً مفتوحاً لتدخلات استباقية في عواصم عربية وإسلامية

تحويل الدوحة إلى ساحة حرب لم يعد حادثة عابرة تُستوعب ببيانات الشجب أو التنديد فقط بل هي جرس إنذار مدوٍ يقرع أبواب العواصم العربية كلها ويقول بوضوح إن السيادة الوطنية باتت هدفاً مباحاًفي منطق الغابة الذي يفرضه نتنياهو تحت غطاء الصمت الأميركي المريب وقد تجاوز الأمر حدود التهديد إلى ممارسة فعلية للابتزاز السياسي والعسكري ليصبح رئيس وزراء إسرائيلي يتصرف كطاغية متوحش يقرر وحده من يُستباح ومن يُعفى ومن يُقصف ومن يُترك آمناً وكأن الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لحساباته الانتخابية وجنونه السياسية

في ضوء كل ما سبق وبعيداً عن منطق السجالات والمنصات الإعلامية لا بد من التركيز دولياً على تحقيق توازن رادع متكامل سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً وقانونياً وإلا سيستمر الانزلاق نحو بيئة إقليمية يحكمها منطق القوة والابتزاز حيث تصبح السيادة الوطنية لعبة قابلة للخرق عند أول اختبار استراتيجي وان وعود أي رئيس مهما علا صوته تبقى عديمة الوزن ما لم تصحبها إجراءات عملية تقطع الطريق أمام الميول العدوانية وتعيد موازين الردع إلى نصابها وان التحرك العاجل بالقوة القانونية والردعية هو ما يمنع تطور الخلاف إلى فوضى إقليمية عابرة للحدود ويحول دون انزلاق العالم إلى حالة فوضى يحكمها من يملك الجرأة على ضرب سيادة الدول بلا حساب

ختاما : لقد آن الأوان لأن يدرك العرب أن أمنهم لن يُحمى بخطابات البيت الأبيض ولا بتغريدات متناقضة من رجل اعتاد نقض عهوده بل بقوة ردع جماعية صلبة تجعل ثمن أي عدوان كارثياً على من يفكر به كما حان الوقت لتحويل الغضب الشعبي إلى استراتيجية دولة والتحالفات الورقية إلى منظومات ردع حقيقية لوضع حد لجنون نتنياهو قبل أن يحول المنطقة كلها إلى حقل تجارب لأسلحته ورغباته في الهيمنة

كما يجب قول كلمة حاسمة للعالم وبلا تردد إما أن يُفرض القانون الدولي بقوة الردع العادلة على الجميع دون استثناء أو أن يستسلم الجميع لحكم الغابة الذي يسعى نتنياهو لفرضه بالقوة والعدوان في ظل حكومة عنصرية مارقة وكاذبة ومجبولة على التطرف والكراهية وملطّخة بدماء الأبرياء وتعبث بالقانون الدولي وترى نفسها فوقه رغم سقوط الرواية الصهيونية القديمة عن دولة ديمقراطية تدافع عن نفسها

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmial

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.