بين هندسة الجهل وامتلاك المعرفة


الدكتور موفق العجلوني

 

نعم وألف نعم فالمعرفة Perception قوة وسلاح بشكلٍ يوازي المال والعتاد العسكري. لأن هناك من يحاول الاستئثار بها لنفسه. ولهذا تأسس مجال ” إدارة الفهم ” في الأوساط الأكاديمية والسياسية.

يقول استاذنا الكبير معالي عدنان أبو عوده : تُعرّف وزارة الدفاع الأمريكية مفهوم ” إدارة الفهم Perception Management” بأنه أي نشر لمعلومات أو أي حذف لمعلومات لأجل التأثير على تفكير الجمهور والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح. ولأن النشر والحذف يتطلّبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والإدراك.

و سرعان ما ينقلنا معالي أبو السعيد من فضاء النور و العلم والمعرفة الى دهاليز و انفاق و ممرات ومطبات علم الجهل Agnotology .حيث عرفه باحث ستانفورد روبرت بروكتور على ذمة أبو السعيد بآنه العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة .

و هذا يذكرني بما كتبه عبد اللطيف مشرف في موقع نون بوست” Noon Post” ، بتاريخ 19 آذار/مارس 2018 ” نحن نحتاج للبحث في ديناميكيات علم الجهل وهندسة التجهيل، أولاً لنكشف لأنفسنا ما مورس علينا من كذب وتضليل وتجهيل، وثانيًا لنكشف وظيفة هذا التجهيل ونتصدى له، حتى نمكن شعوبنا من بناء علاقة سوية مع العالم، باعتبارها شرطًا ضروريًا من شروط متابعة مشروع النهضة والتقدم، وحتى لا نصبح أمة تضحك من جهلها الأمم .”

بنفس الوقت يذكرني علم الجهل أيضاً بما قاله افلاطون : ” إن الجهل أصل كلّ الشرور ” ، إذ إنه بسبب الجهل ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع، وينجم الطغيان والخضوع، وبسببه قد ينجم الاستبداد أو الفوضى، والجهل هو أساس الفساد وعدو الإبداع، سواء كان ذلك الفساد فسادًا سياسيا، أو ماليا، أو فكريا أو روحيا، ويمكن أيضًا أن يرتبط ذلك بالفساد السلوكي والفساد الأيكولوجي .”

لنتخيل كيف تم تجهيل العالم بموضوع التبغ ، و كيف تقوم شركات التبغ برعاية أبحاث علمية مزيفة و بالتالي الجهل ليس هو عكس المعرفة، و هو معرفة تصنيع الجهل و توزيعه لأهداف تجارية او مالية او سياسية .

كيف يتم تصنيع الجهل و توزيعه ، انت بحاجة الى إدارات في العلاقات العامة و الاعلام و فن الإعلان واستعمال كافة وسائل الاقناع . فعن طريق لجان ” العلاقات العامة ” تم تضليل الرأي العام الأمريكي والزج به في الحرب العالمية سابقا وغزو العراق لاحقاً ، و كذلك المعارضة السورية و ما يحدث في ليبيا و اليمن .

هذا التضليل الاستراتيجي و المُمنهج والمبرمج حسب أساسيات علم الجهل، والتي تستند على قنوات ثلاث : بث الخوف لدى الآخرين ، و اثارة الشكوك ، و صناعة الحيرة. و اكبر مثالاً على ذلك قيام بعض الحكومات و أصحاب القرار و المسوولين و أصحاب المصالح العليا في تجسيد مبدأ إثارة الرعب لدى المواطنين لتمرير مصالحها وأجندتها. فتارة، يتم صنع أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، وتارة يتم ترعيب الجمهور بالقدر المظلم إذا لم يشاركوا في الشأن ذاك .

وأما إثارة الشكوك فهو ثاني أعمدة التجهيل، ويتم توظيفه غالبا في القطاع التجاري والاقتصادي ، ولا مانع في مجالات اخرى وهذا بالتحديد منهج الكثير من الشركات. فبعد هبوط مبيعاتها بنسبة 25%، بدأت شركة كوكا كولا العالمية بدفع ما يقارب 5 ملايين دولار لباحثين أكاديميين لتنفيذ مهمة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتوجيه اللوم إلى عدم ممارسة التمارين الرياضية ! هذه الأبحاث المدفوعة يتم نشرها لإثارة الشكوك في ذهنية الفرد حتى يعيد تشكيل موقفه بما يتناسب مع أجندة هذه الشركات.

بنفس الوقت هذا يذكرني برواية احسان عبد القدوس : “انا لا اكذب بل اتجمل ” حيث يحاول إحسان عبدالقدوس أن يلخص لنا في الرواية مصطلح (تجميل المشوه)، أو بمعنى آخر (تجميل الأفكار أو الوجوه المشوه بطريقة جميلة لتقديمها للناس مغلفة بورق جميل) ولكن في النهاية فإن الحقيقة أقوى من ذلك.

وتقديم الأفكار المشوهة للناس وخاصة مع ما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي أصبح اليوم علما وفنا تقوم به الكثير من المؤسسات والدول لتغير معالم الحقيقة، فيقدم الكذب على أنه حقيقة، وذلك تحقيقًا لمبدأ مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية الألماني جوزيف جوبلز ” اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس “. وعندما يصدقك الناس فإنهم هم من سيقومون بالباقي، فهم لا يصدقون الكذبة فحسب، بل سيعيشونها، وكذلك فإنهم سيروجون لها على أنها الحقيقة المطلقة، وفي هذه الحالة فإن الحقيقة تصبح غريبة وغير مقبولة في هذا المجتمع، وهذا ما يطلق عليه اليوم مصطلح (علم الجهل وهندسة التجهيل)، فماذا نعرف عن ذلك؟

في هذا العصر الرقمي ، بات الجهل والتضليل سلعة يومية تُنشر وتُساق على الجمهور، من حكومات وشركات وأصحاب نفوذ. والصمود أمام كل هذه القوى يتطلّب جهودا ذاتية ووعيا مستقلا يبحث عن الحقيقة بعيدا عن العاطفة والأمنيات. وسيكون من قصر النظر وفرط السذاجة لو اعتقدنا أن “علم الجهل” و “إدارة الفهم” و “العلاقات العامة” محصورة على الغرب، بل هي أقرب إلينا من أي شيء آخر! فهل نعيد مراجعة ما حولنا لنكتشف ما نحن فيه ؟

و تشير بعض الدراسات أن المعضلة الكبرى الّتي تهدّد المجتمعات، أمنيًا وتنمويا، وتحرمها حقها في التطور، بل تحرمها من الاضطلاع بواجبها في فهم شروط التطور عبر الاستعانة بالمجتمعات المتحضرة، هو أنّ نخب هذه المجتمعات لم تتحرر من الجهل، وهذا هو العامل الأول الذي يجعل المجتمعات الّتي لم يتأسس فيها علم الجهل تستمر رازحة تحت أوهام المعرفة، لأنّها لم تتمرس بالعلم الّذي يكشف لها مواطن جهلها .

وقد لاحظ الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط أنّ النّاس يعيشون مغمورين في ظلمات الجهل بينما يتوهمون أنّهم يعرفون كلّ شيء، فلا يترددون في الإفتاء في أي شأن وإصدار الأحكام على أي أمر، ومن ثم يعملون على تعميم الجهالة

كما تشير العديد من الدراسات و الأبحاث ان هناك مؤسساتٍ، تابعة لحكومات دولٍ عُظمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة و دول أخرى و على رأسها إسرائيل ، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع، أما من هم مستهلكو سلعة الجهل، فهم ثلاث فئات في كل مجتمع:

الأولى: الفقراء في المجتمع، وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية ، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات. إضافة إلى معلمي المدارس وأساتذة الجامعات. وقد تصل نسبة هذه الفئات كلها في الولايات المتحدة وحدها إلى 90% من حجم السكان، وجنود القتال الأميركيون مشمولون بالطبع، حسب الصديق، في هذه الفئة.

الثانية: المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنون أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية.

الفئة الأخيرة : فئة المغفلين الذين يعملون في الحكومات، وخصوصا حكومات الدول “وسيلة المتحكّمين بمصائر الناس، لبث أفكارهم تلك، كانت ولم تزل الإعلام “الفقيرة، وبالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدّمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم، فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل وتبريره، تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانات والموارد، ويأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي والاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح… وممارسة الكذب والكذب والكذب على عامة الناس، وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لا بد أن يدافعوا عنها.

واختم بالحديث النبوي الشريف الذي رواه ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل ، وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، فهل نحن نعيش الآن في هذا الزمان ؟؟؟ !!!

حفظ الله الأردن من كل سوء ،”و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكريين .”صدق الله العظيم

=========

السفير الدكتور موفق العجلوني

المدير العام

مركز فرح الدولي للدراسات والبحوث الاستراتيجية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.