جبل الشيخ بين شرعية السيادة السورية وفرض السيطرة الإسرائيلية .. من يمتلك القمة ؟

مهدي مبارك عبدالله
مع تسارع الاحداث وتضاربها يتقدم جبل الشيخ في قلب لحظة إقليمية مضطربة كرقعة جغرافية تحولت إلى مرآة عاكسة كشف هشاشة التوازنات وتبدل مراكز القوة في المشرق خاصة وان الجبل الذي يقف على اقرب تماس مع سوريا ولبنان لم يعد مجرد قمة يتجاوز ارتفاعها2800 متر بل صار نقطة اشتباك تختصر السؤال حول السيادة السورية في مواجهة منطق القوة الإسرائيلية الذي عمل لعقود على تكريس احتلال صامت يستفيد من الفراغ السياسي والانهيارات المتلاحقة التي شهدتها البلاد في السنوات الاخيرة وهذا المكان الذي يفترض أن يكون جزءًا بديهيًا من الامتداد السيادي لسوريا أصبح معيارًا لقياس قدرة الدولة الجديدة على إدارة حدودها وفي المقابل بيان رغبة إسرائيل في الاستمرار بالاحتفاظ بامتيازاتها الأمنية تحت غطاء الشعارات ذاتها التي استخدمتها منذ احتلالها الجولان في حرب الأيام الستة في حزيران عام 1967
في ظل هذا المشهد المأزوم تبدو قمّة الجبل كمنصة تظهر تحولات السياسة الدولية في المنطقة بعد التقارب الأميركي السوري اثر سقوط النظام السابق والذي لم يمرّ على تل أبيب مرورًا عابرًا بل اوجد قلقًا عميقًا لأنها تدرك أن أي انفتاح بين دمشق وواشنطن سيعيد رسم خرائط النفوذ في الجنوب السوري ولذلك جاءت تصريحات يسرائيل كاتس وزير الدفاع الاسرائيلي حول رفض الانسحاب من الجبل كمحاولة لفرض سقف مسبق لا يسمح لسوريا الجديدة بترجمة مكاسبها السياسية إلى واقع ميداني وفي ذات الوقت إسرائيل لم تتعامل مع الجبل كقمة عسكرية فحسب بل كجهاز إنذار استراتيجي يمنحها رؤية بانورامية للجنوب السوري والحدود اللبنانية يجعلها قادرة على التحكم بمساحات واسعة من ارض الجولان المحتل ولهذا عملت على تحويل وجودها العسكري هناك إلى أمر واقع يستند إلى القوة وحدها دون أي اهتمام بالشرعية الدولية القائمة
تل أبيب اصبحت تتعامل مع اللحظة الراهنة بوصفها فرصة أخيرة قبل نضوج تسويات قد تجبرها على إعادة تموضع لم تكن مستعدة له فعمليات التحصين والتوسعة التي وثّقتها صحافتها ليست مجرد استعداد شتوي بل رسالة سياسية موجهة لواشنطن ودمشق معًا بأن إسرائيل ستقاوم أي مسار يعيد الاعتبار لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974 وهذا ما يفسر السلوك الإسرائيلي الذي يدمج بين سياسة حافة الهاوية في الجنوب السوري وإلاصرار على تثبيت وجود عسكري على أعلى قمة يمكن أن تتحول إلى عقدة جغرافية في أي تفاوض لاحق وكل ذلك يجري فيما تتصاعد عدة مؤشرات على أن مرحلة ما بعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع للبيت الأبيض قد دخلت طورًا جديدًا يعيد تعريف الدور الاقليمي للدولة السورية
في مواجهة هذا الواقع المضطرب تحاول سوريا الجديدة إعادة مكانتها واثبات وجودها من خلال بوابة الجنوب إدراكًا منها بأن متطلبات استعادة بناء الدولة لا يمكن أن تكتمل بوجود أجزاء من الحدود تخضع لسيطرة الاحتلال ولهذا تتعامل دمشق مع جبل الشيخ كقضية مبدئية تمس جوهر السيادة السورية حيث ترى في أي تساهل بشأنه تمهيدًا لشرعنة احتلال قد يمتد لسنوات أخرى اطول كما تعمل القيادة السورية على تحقيق توازن بين الحذر السياسي والتمسك الصارم بالقانون الدولي وهي تدرك أن العودة إلى اتفاق 1974 بصيغة مطورة يمثل خيارًا يوفر غطاءً قانونيًا يعيد ضبط قواعد الاشتباك ويمنع إسرائيل من توسيع وجودها تحت ذريعة الأمن الوقائي
مع توسع النقاشات في غرف التفاوض غير المعلنة لدى وسطاء باريس ولندن يتضح أن ملف جبل الشيخ تجاوز الحسابات الثنائية وبات جزءًا من لوحة إقليمية أكبر تتشكل على وقع التفاهمات الأميركية السورية وإسرائيل لا زالت ترفض أي انسحاب لا يرتبط بتسوية شاملة في المنطقة بينما تصر دمشق على أن الانسحاب من المناطق المحتلة بعد ديسمبر 2024 ويجب أن يكون هذه الخطوة الأولى قبل أي بحث سياسي وهذا التباين في المواقف ليس مجرد اختلاف تقني بل هو جوهر الصراع بين منطق السيادة ومنطق القوة فدمشق تستند إلى القانون وقرارات الأمم المتحدة بينما تستند تل أبيب إلى المتاريس والتحصينات والإصرار على فرض أمر واقع يتناقض مع مبدأ الأمن الجماعي
بعض الخبراء الإسرائيليين يدركون أن استمرار الاحتلال فوق الجبل ليس خيارًا مفتوحًا وأن أي تطور في العلاقة الأميركية السورية قد يدفع تل أبيب نحو إعادة النظر في معادلة البقاء في المكان إلى إشعار آخر ولذلك تتزايد داخل مراكز التفكير الإسرائيلية تحذيرات من أن التشدد المستمر قد يؤدي إلى خسارة أكبر عندما تنضج التفاهمات والتسويات فيما يطالب آخرون باستغلال اللحظة الحالية المواتية لانتزاع ضمانات أمنية قبل ان تضطر إسرائيل إلى العودة لخطوط 1974 بدون أي مقابل غير أن الاتجاه الغالب داخل المؤسسة الإسرائيلية لا يزال يراهن على أن تثبيت الوجود الميداني اليوم سيمنح تل أبيب أوراقًا أقوى على الطاولة لاحقا
سوريا الجديدة من جانبها تسعى إلى كسر هذا المنطق من خلال مقاربة طويلة النفس تقوم على تعزيز الشرعية الدولية واستثمار الدعم الأميركي المتزايد لإعادة تعريف الأمن في الجنوب وقد تحاول دمشق في هذه المرحلة تجنب الانجرار إلى مواجهة تخدم إسرائيل وتنسف الزخم السياسي الذي تحقق بعد إعادة فتح قنوات التواصل مع واشنطن ولذلك تتجه إلى تعزيز حضورها العسكري الدفاعي ضمن الحدود المسموح بها دوليًا في خطوة تهدف إلى موازنة الميدان بالقدر الممكن دون الدخول في أي مواجهة مفتوحة
جبل الشيخ بات اليوم نقطة اختبار مركزية لمدى قدرة الأطراف الثلاثة على التكيف مع التحولات المتسارعة في الإقليم وإسرائيل تحاول فرض حدوده كخط دفاع نهائي لا يمكن المساس به وسوريا تعتبره عنوانًا اساسيا لسيادتها وضرورة وطنية لا تقبل التراجع عنها فيما تحاول الولايات المتحدة إدارة هذا الاشتباك بحيث لا يتطور إلى مواجهة تعرقل مشروع دعم الدولة السورية ولا تمس في الوقت ذاته اعتبارات أمن إسرائيل وهكذا يصبح الجبل أكثر من بقعة جغرافية بل ساحة يتقاطع فيها الحق مع القوة والسيادة مع الحسابات الأمنية وميزان القوى مع ميزان الشرعية
وفق هذا الواقع لم يعد النزاع فوق جبل الشيخ محصورًا في الحضور العسكري التقليدي بل امتد ليأخذ طابعًا استخباراتيًا معقدًا تسعى خلاله إسرائيل إلى تكريس تفوقها التقني عبر نشر منظومات مراقبة ورصد متقدمة تمنحها قدرة شبه كاملة على متابعة الحركة في عمق الجنوب السوري وصولًا إلى محيط العاصمة وهذا التمركز الذي يسوق تحت عنوان حماية الحدود يعبر في جوهره عن إرادة إسرائيلية لإدامة اختراق استراتيجي يحد من قدرة دمشق على استعادة إدارة حدودها وفي المقابل تعمل سوريا الجديدة على تعزيز منظومة الإنذار والرصد لديها وتقليص الفجوة التكنولوجية التي طالما استفادت منها تل أبيب ما يحول الجبل إلى جبهة صامتة تدار فيها معركة دقيقة حول النفوذ
كذلك تتجاوز حساسية ملف الجبل الاعتبارات العسكرية البحتة حيث يتزايد حضوره ضمن الحسابات المائية الاستراتيجية للمنطقة فمرتفعات جبل الشيخ تشكل أحد المصادر الطبيعية الغنية التي تغذي شبكات المياه المتجهة نحو الجنوب السوري وروافد نهر الأردن وهو ما يمنحها أهمية مضاعفة في ظل التغير المناخي وتراجع الموارد ولذلك تسعى إسرائيل إلى إبقاء وجودها فوق المرتفعات باعتباره وسيلة ضغط مستقبلية تتيح لها التأثير في معادلات الأمن المائي في المقابل ترى دمشق في هذه المنطقة جزءًا من منظومتها الحيوية التي تمس أمنها الوطني مباشرة ولهذا ترفض أي صيغة تسوية تنتقص من سيادتها الكاملة عليها أو تسمح باستمرار التحكم الإسرائيلي غير المشروع بالمصادر المرتبطة بها
مرتفعات جبل الشيخ الشاهقة باتت محورًا لتقاطعات إقليمية متشابكة تتجاوز الإطار السوري الإسرائيلي المباشر فطهران تتابع الملف بدقة لاعتبارات تتصل بإمكانية اعادة عناصرها وتموضعها في الجنوب السوري بينما تخشى أنقرة من أن يفضي الانفتاح الأمريكي السوري المتنامي إلى إعادة تشكيل التوازنات داخل المشهد السوري الأوسع أما العواصم العربية الساعية إلى تثبيت حالة الاستقرار الإقليمي فترى في محاولات إسرائيل تحويل الجبل إلى ورقة تفاوضية دائمة مصدر تهديد لمسار إعادة دمج سوريا ضمن محيطها العربي ونتيجة لذلك تتحول المنطقة تدريجيا إلى عقدة سياسية وأمنية يتنافس فيها اللاعبون الإقليميون على توجيه مسار التطورات بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية
في الختام مع التطورات المعقد قد تجد سوريا الجديدة نفسها أمام لحظة تتطلب صلابة في الموقف ومرونة في الأسلوب وعدم الاستسلام لسياسة الأمر الواقع الإسرائيلية التي سيشكّل انتكاسة خطيرة والابتعاد عن التسرع نحو المواجهة والتي ستعرض ما تحقق من مكاسب سياسية لخطر اكبر ولهذا تبدو الاستراتيجية الأنجح تتمثل في العودة إلى اتفاق 1974بروح جديدة تعيد تعريف قواعد الاشتباك وتمنع التمدد الإسرائيلي وتضع منطقة جبل الشيخ في إطار دولي يحد من الاستخدام الإسرائيلي لذريعة التخوفات الأمنية وفي الوقت ذاته ينبغي تعزيز القدرات الدفاعية السورية وترسيخ حضور ميداني مشروع يوازن الوجود الإسرائيلي ويفتح الطريق أمام مفاوضات مستقبلية من موقع قوة ويبقى العنصر الأهم أن تظل قضية الجبل غير قابلة للتنازل وأن يدار الصراع بأسلوب تراكمي لا ينجر إلى الانفجار وصولًا إلى لحظة تستطيع فيها الدولة السورية فرض حقها القانوني على كامل حدودها وإنهاء سياسة الفرض بالقوة التي تحاول إسرائيل تكريسها بشكل دائم
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

