حتمية الانسحاب الأمريكي من سوريا


مهدي مبارك عبدالله

=

 

بقلم / مهدي مبارك عبد الله

بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان من المفترض ان تتغير خارطة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة وتحركات البنتاغون في هذا الصدد تشير إلى عدة خطط جديدة لقادة واشنطن بشأن المنطقة ستقود إلى سلسلة من الانسحابات الأمريكية في وقت تعيد فيه واشنطن تعديل سياستها الامنية والعسكرية وقد أثار استمرار هجمات داعش في أفغانستان والعراق وسوريا مخاوف واضحة بشأن امكانية عودة ظهور التنظيم من جديد

امريكا انسحبت مؤخراً على عجل من أفغانستان وهذا الأمر أربك حلفائها الأكراد في شرق سوريا رغم انها طمأنت ( قوات سوريا الديمقراطية الكردية ) بأنها لن تبدأ عملية انسحاب مماثلة في سوريا لكن في الواقع وامام الشواهد المتكررة هل يمكن الوثوق بالرئيس الأمريكي جو بايدن فقد كانت هناك تأكيدات مماثلة من إدارة الرئيس السابق ترامب قبل أن يسحب فجأة أكثر من نصف قواته في عام 2019

ويعطي الضوء الأخضر للغزو التركي في عملية ( نبع السلام ) كما صمتت واشنطن عندما قتل العديد من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية اثناء الهجمات التركية وبالتالي فإن انسحاب بايدن من كابل والذي أعطى الأولوية لإنقاذ الأرواح الأمريكية سيؤدي إلى زيادة المخاوف لدى قوات سوريا الديمقراطية بأن امريكا قد تتخلى عنهم في أي وقت قريب

الانسحاب الأميركي من أفغانستان أثار مجددا القلق العميق في المناطق الكردية والشمالية الشرقية من سوريا التي تديرها ( الإدارة الذاتية ) كما انتشر بين الناس بشكل عام وليس فقط في الأوساط السياسية خوفا من أن يتكرر السيناريو ذاته في هذه المناطق لا سيما وأن التجربة التركية التي تمت بضوء أخضر أميركي لا زالت تداعياتها متواصلة

امريكا يمكن أن تتخذ قرارا بسحب قواتها من سوريا بصورة مفاجئة كما فعلت في أفغانستان وهذا الأمر ينبغي ان يكون فيه إشارة واضحة للأكراد الذين يجب ان يبقوا على تواصل وثيق وحوار مباشر مع دمشق للتوصل إلى حل وسط والخروج باتفاقات محددة بين الطرفين خاصة بعدما وضعت الادارة الذاتية الكردية بيضها كله في سلة واشنطن وهي تحاول ايهام نفسها بأن الوجود الأميركي سيكون طويل الأمد في حين أن المعطيات والسوابق تشير لعكس ذلك ولهذا يبدو انه من الحكمة السياسية أن يتواصل الأكراد مع دمشق ويعملوا على حل قضيتهم هناك

تعلم امريكا أكثر من غيرها انه لا مستقبل لها في المنطقة مهما طال الزمن وأن أبناء الشرق الأوسط لا يطيقون وجلودها بينهم لعشرات الأسباب أبرزها فشلها في إثبات مصداقيتها لأي طرف كان فهي دولة مخادعة تلهث خلف مصالحها الشخصية ولا تفرق بين عدو وصديق اذ تنقلب على حلفائها بين ليلة وضحاها وتتركهم في حالة من الخطر والفوضى دون انذار مسبق ومن الافضل لواشنطن سحب قواتها من أراضي محافظات سوريا الشمالية قبل ان ينتهي بها الأمر كما حدث لها في أفغانستان لأن احتمالية بقائهم ضعيفة جداً وشبه مستحيلة

خاصة بعد سيطرة قوات الدولة السورية بمساعدة القوات الروسية والمليشيات الحليفة على غالبية مساحة البلاد وهو ما اظهر على ارض الواقع ضعف وتشرذم الجماعات المعارضة ويجب ان نتذكر ان الأكراد سارعوا عام 2019 عندما أعلنت الحكومة الأمريكية عن سحب قواتها الى عقد اتفاق مع الحكومة السورية يمنحهم الحماية وما نتعلمه من هذا هو أن الأكراد يحرصون على النجاة والحماية وليس على من يقدمها لهم ويمكن لأمريكا تشجيع القادة الأكراد بالاتفاق على ترتيبات حماية بدون توقعات لبقاء القوات الأمريكية حولهم وللأبد وفي حالة توصل الأكراد لصفقة مع النظام السوري فإن الدعم الروسي سيكون بمثابة رادع لتركيا عن القيام بأي عمل عسكري وإجراءات متطرفة ضدهم

القوات الامريكية دخلت سوريا دون التنسيق مع أحد وتمركزت في شمال شرقها ودعمت المليشيا الكردية السورية المعروفة بـ ( قسد ) وسيطرت على حقول النفط هناك ووضعت مرتزقتها لحمايتها وسرقة اموال الشعب السوري جهارا نهارا وبكل وقاحة تقول انها باقية هناك للحصول على النفط وبيعه وبالتالي من الطبيعي جداً أن تتعاطى سوريا معها على انها قوات محتلة يجب محاربتها واخراجها بالقوة لطالما انها مصرة على البقاء ولم تتوقف واشنطن عند هذا الحد بل أقدمت وبأمر من رئيسها السابق دونالد ترامب على حرق المحاصيل الزراعية للسوريين في فعل أقل ما يقال عنه أنه خسيس ودنيء

في الحقيقة ان غاية الادارة الأمريكية الأساسية من كل هذا الضغط الذي تمارسه على دمشق هو اخضاعها لشروط واشنطن واجبارها على فك ارتباطها بمحور المقاومة وتقديم اغراءات للرئيس بشار الاسد على المستوى الشخصي ولمستقبل بلاده ولكن من يثق بواشنطن بعد كل الاجرام الذي اقدمت عليه في الشرق الاوسط وان قبحها لا يوجد من يجمله بعد كل ما فعلته في المنطقة والعالم

ما علينا الا ان ندقق في تجربتها في العراق وافغانستان لنعلم من هي امريكا التي أغرقت المنطقة بالفوضى بحجة انها جاءت لتنشر الديمقراطية ولكنها لم تنشر سوى الدمار والخراب وهي مستمرة في هذا النهج وحتى لو حاورتها دمشق وقبلت بشروطها فلن تحصل سوى على الخراب وسلب السيادة وهذا ما تعيه دمشق منذ البداية لذلك رفضت جميع الاغراءات التي قدمت لها ان كان من واشنطن او الدول الخليجية لفك ارتباطها بالمقاومة وأن دمشق محقة بشروطها وثباتها على مواقفها المبدئية لضمان مستقبل شعبها الذي قدم التضحيات الكثيرة للحفاظ على سيادة بلاده

تسعى الولايات المتحدة إلى بناء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة الشدادي يتكون عناصرها من البدو الرحل في منطقة الشدادي وضواحي الحسكة الجنوبية وخاصة من قبيلة الجبور ولهذا الغرض قامت بنقل عدد من العناصر المسلحة من قاعدة التنف إلى قاعدة الشدادي وتحويل هذه القاعدة إلى مركز تدريب مؤقت تم نقل حوالي 800 اليها لحماية الآبار وحقول النفط والقواعد الأمريكية في المنطقة

العديد من التقارير و بعض وسائل الإعلام المحلية اظهرت أن قوات قسد وبأوامر وتعليمات امريكية سمحت قبل عدة شهور بفرار عناصر داعش من السجون في حي غويران بالحسكة التي تسيطرون عليها ومهدوا لهم المغادرة بطريقة منظمة رغم ان امريكا لا زالت تتذرع بحجة حماية الأكراد لبقائها في سوريا وتعتبر الدفاع عن الأكراد هو العامل الأكبر وراء قرار الإدارة إطالة عملية نشر 900 جندي أمريكي في سوريا وبدلا من استخدامها القوات الأمريكية لحماية الأكراد فمن الحكمة إنهاء المشاركة العسكرية الأمريكية في سوريا

ويجب هنا على الاكراد ان يفهموا بأن مشاركة القوات الامريكية في عمل عسكري للدفاع عنهم ضد تركيا عضو الناتو والتي تستضيف الأسلحة النووية الأمريكية سيظل أمرا خارج دائرة التفكير ويجب ان يعوا ايضا أن المصالح قد تتفق لكنها قد تتباين أيضا ولا يوجد سبب يدعو للتفكير أن الأكراد أو أيا من القوى غير الأمريكية تستحق دعما وحماية عسكرية أمريكية للأبد

في أيلول الماضي أرسلت واشنطن قائد القيادة المركزية الجنرال ( فرانك ماكينزي ) في رحلة غير عادية للقاء ( مظلوم عبدي) قائد قوات سوريا الديمقراطية حيث كان هدف الزيارة هو طمأنة عبدي أن قواته تستطيع التعويل على الدعم الأمريكي وبعد فترة قصيرة التقت إلهام أحمد التي تترأس اللجنة المركزية للمجلس السوري الديمقراطي مع المسؤولين الأمريكيين في واشنطن وعلقت لاحقا سيظل الامريكان في سوريا ولن ينسحبوا

مما لا شك فيه أن تأجيج الأوضاع في أفغانستان والعراق وسوريا يحول دون عودة السلام والاستقرار إلى هذه الدول وبالتالي فإن الحفاظ على مراكز عدم الاستقرار في المنطقة هو الهدف الأهم لمسؤولي واشنطن لدعم الإرهاب ومن ناحية أخرى يستخدم مسؤولو البيت الأبيض أدواتهم لتقوية تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا ومحافظات العراق الوسطى لمنع طرد قواتهم من المنطقة ومواجهة تعزيز موقف الأطراف المنافسة مثل إيران وتأكيد ذلك ما قاله الجنرال المتقاعد في الجيش الأمريكي ( جوزيف ووتل ) الذي قاد مركز القيادة المركزية من مارس 2016 إلى مارس 2019 إن الوجود العسكري الأمريكي سيسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على نفوذها في شرق سوريا والعراق وردع إيران

والحقيقة هي أن واشنطن تستخدم استمرار احتلال شرق سوريا لشراء الوقت لداعش لإعادة بناء قوتها وقد قالت ( جينيفر كافارلا ) عضو معهد الأمن القومي والبحوث لفهم الحرب في واشنطن بينما تمنع القوات الأمريكية في سوريا الحرب من الوصول إلى شرق سوريا فهي] تساعد داعش على تعزيز قوتها ويتجلى ذلك من خلال الضربات الجوية الأمريكية المتكررة على قوات الحشد الشعبي التي تتصدر القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية على الحدود العراقية السورية

هنالك مجموعات إرهابية يتم تدريبها في قواعد أمريكية داخل سوريا إما على الحدود السورية العراقية أو على الحدود الأردنية العراقية وان القوات الأمريكية بطائراتها الاستطلاعية كانت تجمع معلومات دقيقة حول مواقع وحدات الحشد الشعبي وتزويدها لخلايا داعش الإرهابية

بالتأكيد الرئيس جو بايدن يريد وقف ما أسماها الحروب الأبدية إلا أنه وبعد مضي بعص الوقت على انسحاب أفغانستان قدمت الإدارة تأكيدات أنها ستبقى في سوريا ولن يكون هناك أي انسحاب من الحرب الأبدية التي تنخرط فيها أمريكا هناك وهذا بحد ذاته يمثل خطأ امريكيا جديدا وكارثيا والتزاما بعملية لا يمكن الحفاظ على ديمومتها فهي بدون هدف واضح ومحدد لتحقيقه سيما بعد هزيمة تنظيم الدولة وهو ما يطرح أسئلة مشروعة حول سبب بقاء الجنود الامريكيون هناك حتى هذا اليوم والتركيز على مراقبة المسيرات والقنابل الصاروخية والقوافل الروسية في وقت يتظاهر فيه المسؤولون في واشنطن حول نتيجة الحرب الأهلية السورية التي ستؤدي لإضعاف الأمن الأمريكي

وحتى نكون صريحين أكثر فسوريا ليست جائزة ترضية أمريكا تسعى للحصول عليها فما تبقى من مقاتلين تابعين لتنظيم الدولة متفرقين في عدة أماكن لم يعودوا يشكلوا تهديدا كما كانوا في ذروة قوة تنظيمهم ولديهم ما يكفي من الأعداء المحيطين بهم في المنطقة من إيران روسيا إلى النظام السوري يمكنهم مواجهته وفي الوقت نفسه فقد انحرف ميزان القوة للأزمة السورية منذ وقت لصالح الرئيس السوري بشار الأسد وبات بعض جيرانه يعترفون بهذا الواقع ويتعايشون معه

اخيرا أن تفكير امريكا حتى لو مجرد الاحتفاظ بقوة رمزية في سوريا سيعرض حياة الأمريكيين للخطر ويتطلب بذل المزيد من الجهود والذي سيؤدي إلى جر الولايات المتحدة إلى نزاعات مؤكدة عليها تجنبها بعقلانية وان أحسن الخيارات المتاحة امام واشنطن اليوم هو الانسحاب من سوريا والاعتراف بأن المهمة قد تحولت عن هدفها الأمني المشروع وحان الوقت للاعتراف والتوقف وكما اعترفت في النهاية أن بقاء قواتها في أفغانستان لا يمكن الحفاظ على ديمومته فستتوصل لاحقا إلى نفس النتيجة وهي أن بقاء القوات الأمريكية في سوريا لا يمكن الحفاظ عليهmahdimubarak@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.