حل الأحزاب الدينية بين القبول والرفض


الدكتور رشيد عبّاس

قبل الدخول في هذا الموضوع, علينا أن نضع حقيقة بين يديّ القرّاء الكرام, مفادها أن هناك الملايين من المسلمين المتدينين حقاً لا ينتمون لأي حزب من الأحزاب الدينية العديدة والموجودة اليوم عند الأمة الاسلامية, بمعنى أن التديّن الحقيقي لهؤلاء المسلمين المتدينين لم يأتي بفعل هذه الأحزاب الدينية.
والسؤال المطروح هنا: هل الأحزاب الدينية جمعت الأمة ووحّدت صفوفها عبر القرون الماضية, أم أنها عملت على عكس ذلك؟ سؤال مشروع طرحه كثير من المفكرين المسلمين منذُ زمن بعيد, سؤال انقسمت عليه إجابات الأمة الإسلامية إلى قسمين, القسم الأول يقول أن الأحزاب الدينية جمعت الأمة الإسلامية ووحّدت صفوفها, والقسم الثاني يؤكد عكس ذلك تماماً, وقبل ترجيح أي من الرأيين هو الأصح, علينا الوقوف الفعلي على حال الأمة الإسلامية قبل تأسيس الأحزاب الدينية وبعد تأسيسها.
أولاً) حال الأمة الإسلامية قبل تأسيس الأحزاب الدينية:
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بإنشاء أي حزب ديني على الإطلاق, كذلك الخلفاء الراشدين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشؤوا أي حزب ديني, بعد ذلك الصحابة والتابعين من بعد الخلفاء الراشدين لم ينشؤوا أي حزب ديني يُذكر, وصولاً إلى الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية, لم تنشئ أي منهما أي حزب ديني على الإطلاق, مع أن جميع ظروف وإمكانات هؤلاء المادية والمعنوية كانت متوفرة لإنشاء العديد من الأحزاب الدينية, إلا أنهم لم يقوموا بذلك, وذلك حفاظاً على جمع الأمة وتوحيد صفوفها, وعدم تفريقها وتمزيقها وتشتيتها, الامر الذي جعل حال الأمة الإسلامية قبل تأسيس الأحزاب الدينية, أمة مجتمعة موحّدة غير مشتتة إلى حد بعيد.
ثانياً) حال الأمة الإسلامية بعد تأسيس الأحزاب الدينية:
بدأت فكرة إنشاء الأحزاب الدينية وتشكيلها لدى الأمة الإسلامية فعلياً بعد انتهاء الخلافة العثمانية مباشرة, وذلك لأسباب عديدة لعل من أبرزها الوصول إلى السلطة والحكم, والتنازع على المصالح الخاصة والضيّقة كما تُدلّل كثير من الدراسات, الأمر الذي ادى بدوره إلى محاولة قيام كل حزب ديني بالدفاع عن وجهة نظره, والعمل على ليّ وثني الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة كل حسب مصلحته وطريقته الخاصة به, إلى أن وصل الأمر بنا إلى فرقة الأمة الإسلامية وتمزق صفوفها وتشتت أهدافها.
ومن هنا طرح البعض سؤال محوري مفاده: هل الأحزاب الدينية (بدعة)؟ أم أن ذلك جزء لا يتجزأ من الدين الاسلامي؟
القرآن الكريم لم يدعوا إلى إنشاء أي حزب من الأحزاب الدينية لا بالتصريح ولا حتى بالتلميح على الاطلاق, وكذلك السنة النبوية الشريفة لم تدعوا إلى إنشاء مثل هذه الأحزاب الدينية على الإطلاق, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً ومن جاء بعده من خلفاء راشدين وصحاب وتابعين لم ينشؤوا أي حزب ديني يذكر, أضافة إلى أن كل من الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية لم تنشئ أي منهم أي حزب ديني على الإطلاق.
ثم أن كثير من علماء الدين أمثال الشيخ العلاّمة أبن عثيمين, والشيخ العلاّمة صالح الفوزان, والشيخ العلاّمة عثمان الخميس والشيخ العلاّمة الألباني وغيرهم الكثير الكثير من علماء المسلمين الحقيقيين أكدوا أن الأحزاب الدينية (بدعة) ولا يوجد أدنى شك في ذلك, وقد برّر هؤلاء العلماء الأفاضل وغيرهم من العلماء أن الأحزاب الدينية من شأنها الانشغال عن الدعوة إلى الله, وتعمل على تفريق وتمزيق وتشتيت الأمة الإسلامية, وما حال الأمة الإسلامية اليوم إلا دليل ساطع على ذلك.
اليوم ونتيجة للعصف الذهني هناك دعوة جادة من قِبل كثير من علماء المسلمين الإجلاّء – من غير الحزبيين- تطالب بكل جرأة بحل الأحزاب الدينية وإلغاءها عند الأمة..
1) امتثال وتطبيق لكتاب الله عز وجل, قال تعالى: (إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون), وقال تعالى: (وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون), حيث أن هاتان الآيتان وغيرها من الآيات الكريمة تندرجان في شأن وحدة المسلمين، وضرورة التفافهم حول منهجهم, فالرب واحد، والقرآن واحد، والنبي واحد، والمنهج واحد، والقبلة واحدة، ومع ذلك نرى الانقسام والتمذهب والتحزب الديني.
2) إسوة برسول صلى الله عليه وسلم, حيث جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
3) اقتداء بالخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
4) السير على خطى كل من الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية,
والتي لا تتعارض مع الدين.
كيف لا والآية في قوله تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون) قد جاءت من باب الذّم للتحزب الديني وليس المدح, حيث أن كل حزب من هؤلاء الذين فرقوا دين الحق.. قد أحدثوا البدع بما هم متمسكون به من التحزب، فرحون ظانين أن الصواب معهم دون غيرهم, في بواطن هؤلاء تنازع على المصالح الخاصة الضيّقة, وفي ظواهرهم الحرص على كتاب الله وسنة نبيه.
الإسلام لا يعرف الفرق والأحزاب, وطالب منذُ البداية الابتعاد عن الافتراق والفرقة وأعتبر ذلك ضلالة, وأن حل وإلغاء الأحزاب الدينية بات اليوم مصلحة ضرورية للأمة الإسلامية, كون هذه الاحزاب الدينية (بدعة) دينية فرّقت ومزّقت وشتّتت صفوف ووحدة الأمة الإسلامية, نعم كفانا انقسام وتمذهب و(تحزب) ديني, كفانا بِدعاً وضياع.. إن صندوق التصويت على (حل) الأحزاب الدينية موجود داخل الصدور.. في القلوب, ونتائجه ترفع مباشرة إلى الله سبحانه وتعالى.
بقي أن نقول: عذراً يا رسول الله.. فقد ابتدعنا شيء لم تفعله أنت.
دمتم بخير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.