حين تتحدث الملكة رانيا عن الأمل في زمن الكراهية بعد حرب غزة


مهدي مبارك عبدالله

 

في 3 / 11 / 2025 ألقت جلالة الملكة رانيا العبدالله كلمة مؤثرة في قمة عالم شاب واحد ” One Young World Summit ” التي استضافتها مدينة ميونخ الألمانية بمشاركة آلاف القادة الشباب من مختلف دول العالم حيث تناولت في خطابها القيم الإنسانية الجامعة ودور الجيل الجديد في التصدي لخطاب الكراهية الذي تفاقم بفعل الحرب الإسرائيلية على غزة وقد اكدت جلالتها في ثنايا حديثها أنه يتوجب مواجهة الحقد بالأمل وإحياء الضمير الإنساني لانهما الطريق الوحيد لبناء عالم أكثر عدل وسلام

في ظل حياة اصبحت مفجعة وعالمٍ تتزاحم فيه مشاهد الألم وتتناسل مشاعر الكراهية من رحم المآسي جاء صوت جلالة الملكة رانيا من ميونخ كنداءً إنسانياً مفعماً بالصدق والعقل والضمير وهي تدعو شباب العالم إلى مواجهة الكراهية بالأمل وإلى بناء عالمٍ جديد تسوده المحبة والرحمة والتفاهم بعيداً عن التعصب والانغلاق والتمييز والتفرقة خطابها في قمة ” عالم شاب واحد ” لم يكن مجرد كلمات عابرة تناثرت في الهواء بل كان خريطة طريق أخلاقية لمستقبل يجب أن يتسع للإنسان كله لا للون أو أصل أو دين معين ومحدد

ما ميز جلالة الملكة رانيا في كل ما قالته أنها لم تكتفِ بالإدانة أو التعبير عن الأسى بل قدمت رؤية عميقة تنسجم مع روح العصر وتخاطب العقول الشابة بلغة يفهمها العالم بأسره فهي لم تكتفي بإبراز المأساة الفلسطينية بوصفها حدثاً مأساوياً شاملا بل وضعتها في سياق إنساني شامل يفضح اللامبالاة الدولية ويحمل العالم مسؤوليته الأخلاقية تجاه ما كل ما جري لأن الحرب في غزة لم تخلف خرابا ودماراً مادياً فحسب بل تركت ندوباً عميقة في الروح الإنسانية وكسراً وشرخا في توازن الأخلاق العالمي

الملكة رانيا تدرك بوعي وحكمة أن الشباب هم أكثر الفئات عرضة لتأثرهم بمشاهد العنف والدم والظلم كما تؤمن في الوقت ذاته بأنهم الاوفر قدرة على تحويل الألم إلى طاقة إيجابية تدفع بهم نحو الإصلاح لا الانتقام والفهم لا الكراهية ومن هنا جاءت دعوتها لتغليب الأمل على الغضب والتعاطف على التمييز معتبرة أن العالم الذي يعاد بناؤه على أساس من الحقد لن يعرف سلاماً ولا استقراراً وأن الكراهية إذا استوطنت القلوب والنفوس الشابة فإنها ستتحول إلى حروب جديدة وصراعات لا تقل وحشية عما شهدناه في غزة من ابادة جماعية وحصار وتهجير

لقد أشعلت الحرب الإسرائيلية على غزة شرارة غضب عارمة بين الشباب في الشرق والغرب معا حيث خرجت الملايين ترفض التبرير الغربي للقتل الجماعي وتكشف زيف الرواية الإسرائيلية التي سقطت أمام مشاهد الدمار والجوع والدموع لكن خطاب الملكة رانيا جاء منطقيا ليهذب هذا الغضب ويوجهه نحو فعلٍ إيجابي يطالب بالعدالة لا بالانتقام وبالكرامة لا بالكراهية فهي تعلم أن بناء عالم مختلف يبدأ من داخل الإنسان ومن وعيه وإيمانه العميق بأن الإنسانية جامعة ويجب ان تتسع للجميع

إن ما يضفي على مواقف جلالة الملكة رانيا رغم فرادتها وقوة تأثيرها هو أنها لا تتحدث من برجٍ سياسي عاجي أو موقعٍ رسمي بيعد عن الناس فحسب بل تقدم رؤيتها بواقع مرتبط بإحساسٍ صادقٍ وبمعاناة الإنسان أينما لهذا كان صوتها الصادق الذي ارتفع من ميونخ يذكر العالم بأن القيم لا تتجزأ وأن اللامبالاة ليست حياداً بل تواطؤ صامت يطيل عمر المأساة ويفاقمها ومن خلال حراكها الدؤوب في المحافل الدولية ومبادراتها الإنسانية والتعليمية والإعلامية تسعى جلالتها لتأصيل ثقافة الوعي والتسامح والتعاطف كقوة مضادة لثقافة الكراهية التي غذّتها الحرب على غزة ببشاعتها وقسوتها المطلقة

لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هل يجوز للعالم أن يطلب من شباب غزة أو من شباب الأمة العربية أن يواجهوا الكراهية بالأمل بينما القصف ما زال يهدم البيوت فوق رؤوسهم والحصار يخنق أنفاسهم والمعتقلات تمتلئ بضحايا العدالة المفقودة ثم كيف يمكن ترميم الروح الإنسانية في بيئةٍ لا زال يُكافأ فيها القاتل ويُعاقَب فيها المظلوم اليست العدالة الشرط الأول للأمل الذي لا يولد في الفراغ بل في ظل إنصافٍ حقيقي واعترافٍ واقعي بمعاناة شعبٍ ما زال يدفع ثمن صمت العالم وازدواجية معاييره وتبدل ولاءاته

لقد أصبح واضحاً أن صمت المجتمع الدولي وتواطؤ بعض القوى الكبرى منحا الاحتلال غطاءً لمواصلة جرائمه وجعلا من العداوة والكراهية دوامةً لا تنتهي حيث لا يمكن أن يطلب من شعب مكلوم أن يحب جلاده أو أن يتسامح مع من يمارس ضده القتل اليومي ومع ذلك فإن صوت الملكة رانيا جاء ليذكر العالم بأن الغضب وحده لا يصنع العدالة وأن الطريق إلى الخلاص الإنساني يبدأ بوقف الإجرام الصهيوني في غزة والضفة وبمنح الشعب الفلسطيني وشبابه الحق في أن ينهض من تحت الركام ليستعيد معنوياته وآماله ويرى العالم من جديد بعينٍ أكثر إنسانية تصنع شيئاً من روح المحبة وتزرع أملاً في غدٍ أفضل

لعل التحدي الأكبر أمام الشباب اليوم هو ألا يسمحوا لتلك المشاهد الدامية أن تسلبهم قدرتهم على الإيمان بالخير أو أن تسقطهم في فخ الكراهية المضادة لأن الاستسلام لمشاعر الانتقام هو الوجه الآخر للهزيمة ولأن بناء عالم يسوده الأمل والإنصاف يحتاج إلى جيل يرى في الإنسان إنساناً قبل أن يراه هوية أو عرقاً أو ديناً

ختاما : إن الكراهية التي صنعتها آلة الحرب الإسرائيلية لن تقتلع من القلوب والعقول إلا إذا اجتمع ضمير العالم على قول الحقيقة وعلى إنهاء الاحتلال وإيقاف الظلم وبغير ذلك ستبقى إنسانية البشرية كلها مجروحة ويظل شباب العالم أسرى لمشاهد العنف والدم والدمار بينما ورغم كل هذه السوداوية وفقدان الامل تبقى دعوة الملكة رانيا من ميونخ نداءً مضيئاً وسط هذا الظلام يذكّرنا بأن القلب الإنساني مهما أدمته الكراهية قادر على أن يحب من جديد إذا رأى عدلاً حقيقيا ينهض وحقاً مهضوم يُستعاد

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.