حين تسقط الأعراف : كيف حوّل ترامب العدالة إلى أداة سياسية لحماية نتنياهو

مهدي مبارك عبدالله
قبل الغوص في مضمون المقال نستعرض بعض الاسئلة التي تطرح نفسها بقوة اولها لماذا يخاطر ترامب بسمعته السياسية من أجل انقاذ نتنياهو وكيف وضع القانون في خدمته وهل هو عفو أم صفقة قذرة أم رهانات سياسية لما بعد الرئاسة وكيف التقى تحالف النفوذ بالمصالح وما ثمن هذا العفو وما هي الحسابات السياسية لترامب وماذا جرى خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة لخيار التدخل غير مسبوق وهل تتغلب في النهاية السياسة على العدالة حين يتآمر الأقوياء عليها للإفلات من العقاب اليكم اسرار والغاز القصة الكاملة
في الواقع لم يكن الضغط الذي مارسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمنح رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عفو رئاسيا مفاجئاً بقدر ما كان صادماً في توقيته وحدّته وجرأته خاصة وان العلاقة بين الرجلين لم تكن يوماً مجرد صداقة سياسية عابرة بل تحولت خلال السنوات الماضية إلى تحالف شخصي قائم على المصالح المتبادلة والتشابك النفسي والرؤية المشتركة للعالم لذلك لم يتردد ترامب في وصف نتنياهو الذي قاد المجازر في غزة وقتل آلاف الأطفال الفلسطينيين بالبطل العظيم ولم يكتف بمديحه بل تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية والقانونية حين طالب جهاراً بالعفو عنه ملوحاً بأن استمرار المساعدات الأمريكية لإسرائيل قد يتوقف إن لم يستجب الرئيس إسحاق هرتسوغ لهذا المطلب وهذه لحظة نادرة يجري فيها استخدام الدعم الاستراتيجي لإسرائيل كورقة ابتزاز سياسية داخلية وبطريقة لم يقدم عليها أي رئيس امريكي من قبل
خلف كل هذه الضغوط تكمن دوافع ثقيلة حيث يدرك ترامب أن نتنياهو يقاتل من أجل حياته السياسية وهو يواجه ثلاث قضايا فساد تتعلق بالرشوة والاحتيال وإساءة استخدام المنصب والتي استمرت أربع سنوات في المحاكم بفضل مماطلاته ومع ذلك باتت أقرب من أي وقت مضى إلى نهايتها و ترامب يخشى أن يشكل سقوط نتنياهو سابقة يستخدمها خصومه في الولايات المتحدة ضده إذ يرى في ملاحقة بيبي نموذجاً شبيهاً بما قد يواجه من ملاحقات قانونية في بلاده لذلك تحولت معركة نتنياهو القضائية بالنسبة لترامب إلى جزء من معركته الخاصة ضد ما يسميه الدولة العميقة وسلطة القضاء الذي يرى فيه خصماً سياسياً أكثر منه مؤسسة مستقلة
ما يجعل تدخلات ترامب أشد وطأة أن الإسرائيليين أنفسهم منقسمون بعمق حول مصير نتنياهو حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن 44% يرفضون منحه العفو مقابل 39% يؤيدونه بينما يطالب 67% بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر وهذا الانقسام يعكس انهيار الثقة بالقيادة والنظام السياسي ويضع الرئيس هرتسوغ أمام معادلة شديدة الحساسية بين قوة القانون والضغوط السياسية وبين مؤسسات الدولة والمصالح الاستراتيجية واحترام القضاء وعدم استفزاز واشنطن
رسالة ترامب للرئيس الاسرائيلي لم تكن مجرد إعلان تضامن مع نتنياهو بل كانت عملياً تدخلاً صارخا في القضاء الإسرائيلي وهو ما أثار موجة جدل واسعة لأن أي رئيس دولة أجنبية لا يملك الحق في التأثير على النظام القضائي لدولة اخرى ذات سيادة وقد اعتبرت صحيفة “هآرتس” هذا التدخل خرقاً لمبادئ الديمقراطية ووصمة في جبين الاستقلال القضائي الإسرائيلي بينما اعتبره حزب الليكود دليل على أن نتنياهو يتعرض لمؤامرة سياسية تستدعي حماية دولية وذلك التناقض بين الانبهار بترامب والغضب منه يعكس في جوهره حقيقة إسرائيل الحديثة بانها دولة مشدودة بين مؤسساتها المدنية وبين انحيازاتها الحزبية المتطرفة
التطور المفاجئ والاهم في القضية كان في اليوم الذي اضطر فيه نتنياهو إلى تقديم طلب رسمي للعفو بعد سنوات طويله من الرفض القاطع ففي يوم 30 نوفمبر 2025 وبعد ضغط سياسي وإعلامي متواصل من ترامب سلّم نتنياهو للرئيس هرتسوغ طلباً من 111 صفحة لكنه لم يكن طلباً بالمعنى القانوني بل كان أقرب إلى أمر كما وصفته الصحافة الإسرائيلية يومها ولم يعتذر كما لم يعترف بالذنب ولم يقر بالوقائع او يبدِي أي استعداد لمغادرته الحياة السياسية كما هو متبع في كل حالات العفو السابقة وقد بدا نتنياهو كمن يريد أن يحصل على العفو مع الاحتفاظ بكل شيء امتيازاته من منصبه ونفوذه وصورته أمام أنصاره كرجل فوق القانون
لاشك ان هذا الطلب غير المسبوق وضع الرئيس الإسرائيلي في مأزق غير قابل للحل بسهولة خصوصا ان العفو في إسرائيل وفق القانون يستلزم اعترافاً بالذنب أو على الأقل قبولاً بالمسؤولية كما أنه يأتي عادة بعد انتهاء الإجراءات القضائية لا إثناءها والمدعية العامة بهاراف ميارا رفضت سابقاً أي اتفاق مع نتنياهو دون اعترافه الواضح بالجرائم المتهم بها و لا زالت تصر حتى اليوم على أن أي عفو يجب أن يقترن بحكم “الفساد الأخلاقي” الذي يجبر نتنياهو تلقائياً على ترك منصبه وهو أمر يعارضه بشدة إذ يعلم أنه بلا المنصب لن يكون قادراً على حماية نفسه سياسياً وقضائياً
في الخفاء تتحرك ماكينة الدولة العميقة الإسرائيلية بهدوء نحو مفترق طرق خطير فوزير العدل ياريف ليفين المؤيد لنتنياهو يحاول تسريع الإجراءات بينما تعِد المعارضة القوية باللجوء إلى المحكمة العليا للطعن في أي عفو سياسي لا يستند إلى قواعد العدالة وفي الخلفية يُذكّر الجميع بسابقة “الخط 300” حين منح الرئيس الأسبق حاييم هرتسوغ عفواً استباقياً لقتلة فلسطينيين قبل محاكمتهم، وسوّغت المحكمة العليا ذلك الانتهاك تحت حجج سياسية وأمنية واهية واليوم يخشى كثيرون أن تتكرر القصة لكن على مستوى أعلى ومع رجل أكثر نفوذاً وخطورة
الحقيقة ان اضطرار نتنياهو لتقديم طلب العفو رغم عنجهيته السابقة يعكس حجم الخطر الذي يقترب منه مع تسريع جلسات محاكمته أربع مرات أسبوعياً في محاولة لحسمها قبل نهاية الدورة القضائية المقبلة وهو يدرك أن خسارته في المحكمة ستعني انهياره السياسي الكامل وأنه حتما سيسقط بسبب الفساد بعد نجاته حتى الآن من المحاسبة على جرائم الحرب والإبادة في غزة لذلك جاء طلب العفو متسرعا كخطوة اضطرارية لا إرادية في محاولة لشراء الوقت وخلق أزمة دستورية واستدعاء واشنطن لتقديم دعم سياسي مكشوف
هنا تحديداً يعود دور ترامب ليتضخم اكثر بعد تقديم نتنياهو الطلب بات ترامب يشعر أنه انتصر في جولة الضغط الأولى وأن الكرة الآن في ملعب هرتسوغ ومؤسسة القضاء وإذا رفض الرئيس الإسرائيلي العفو سيستخدم ترامب ذلك لتأجيج قاعدته الدينية والسياسية في الداخل الأمريكي مدعياً أن العميقين في إسرائيل يطاردون حليف أمريكا الأكبر وفي المقابل إذا قُبل العفو فسيقدم ترامب ذلك كصفقة سياسية صنعها بنفسه وسوف تعيد نتنياهو زعيماً وتمنحه فرصة لتشكيل حكومة يمين جديدة خالية من شركاء التأزيم والإحراج مثل بن غفير وسموتريتش وفي الحالتين سينتصر ترامب مرة عبر خلق أزمة داخل إسرائيل والاخرى عبر إحياء دوره كمهندس للتحالفات اليمينية في الشرق الأوسط
لكن السؤال الأكبر يبقى مفتوحاً هل يمكن لمؤسسة العدالة في إسرائيل أن تصمد أمام هذا الضغط الداخلي والخارجي وإذا ما صدر العفو فعلاً فهل سيشكل ذلك نهاية مفهوم “المساواة أمام القانون” في الدولة التي زعمت دائماً أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ثم ماذا بعد العفو نفسه هل سيُجبر نتنياهو على مغادرة الحياة السياسية أم سيحصل على عفو كامل يطيح بالقانون ويجعل الدولة خاضعة لرغبات رجل واحد يعود بقوة اكبر وسيطرة اشمل
بالتدقيق في مجمل الاحداث نجد ان ما بات واضحاً أن إسرائيل تقف على حافة اختبار تاريخي دقيق إما أن تسقط في هوة العفو السياسي الذي يدفن النظام القضائي ويفقد استقلاليته أو تواجه زعيمها الأكثر تعصب ونفوذاً وتعيد الاعتبار للقانون وفي الحالتين فإن تدخّل ترامب هو ما أعاد رسم المشهد كله وخلق دينامية جديدة يتداخل فيها القضاء بالسياسة والداخل الإسرائيلي بالانتخابات الأمريكية والمصالح الإقليمية بالتحالفات الشخصية
ما اقدم عليه ترامب ليس دفاعًا سياسيًا ولا موقفًا أخلاقيًا ولا حتى اجتهادًا قانونيًا قابلًا للنقاش بل هو تدخل فاضح لاغتيال العدالة على مرأى العالم لقد اختار ترامب أن يقف عاريًا من أي مبدأ ليضع ثقله السياسي في خدمة رجل متهم وكأن القانون بات مجرد تفصيل مزعج يمكن دهسه حين تتعارض بنوده مع مصالح الأقوياء وإن التدخل للعفو عن بنيامين نتنياهو لم يكن سابقة فقط بل إعلانًا رسميًا بأن العدالة في هذا العالم لا تُدار بالنصوص، بل بالتحالفات ولا تُحسم في المحاكم بل في غرف النفوذ المغلقة ترامب لم يسأل هل نتنياهو بريء بل سأل هل نتنياهو مفيد وهنا تكمن الفضيحة ونحن نقف أمام مشهد فجّ لرئيس يتصرف كزعيم عصابة سياسية ويستخدم نفوذه ليحمي حليفًا مجرما ويرسل للعالم رسالة وقحة مفادها أن القانون يُطبق على الضعفاء فقط أما أصحاب العلاقات هم فوق المساءلة وهذا ليس دفاعًا عن نتنياهو بقدر ما هو دفاع عن نموذج كامل من الإفلات من العقاب يُدار باسم السياسة ويُبرر باسم المصالح المشتركة
لم يعد تدخل ترامب في ملف العفو مجرد موقف سياسي بل بات محاولة فجة لجرّ إسرائيل إلى قلب معاركه الداخلية فواشنطن اليوم ليست سوى حلبة يتصارع فيها اليمين الشعبوي مع مؤسسات الدولة ونتنياهو بالنسبة لترامب ليس حليفاً بل ورقة يضغط بها على القضاء الأمريكي وعلى خصومه الديمقراطيين لقد وضع ترامب إسرائيل علناً في خانة الدول التي يمكن ابتزازها سياسياً مهدداً بقطع المساعدات وكأنه يتعامل مع دولة تابعة لا مع حليف إستراتيجي هذا السلوك كشف حجم الانحدار في النظرة الأمريكية لإسرائيل من شريك إلى أداة وفي العمق، فإن ما يفعله ترامب ليس حماية لنتنياهو بل محاولة لتجربة نموذج العفو السياسي في إسرائيل تمهيداً لتطبيقه في الولايات المتحدة وبكلمات أوضح نتنياهو أصبح مختبراً لخطط وتخوفات ترامب لا صديقاً يستحق الدفاع عنه
أخطر ما في أزمة العفو أنها تهدد بإسقاط ما تبقى من شرعية النظام الإسرائيلي واذا كان يمكن إسقاط القضاء وتشويه القانون وإهانة مؤسسة الرئاسة من أجل رجل واحد فماذا يبقى من الدولة وإن تمرير العفو سيكون لحظة انهيار أخلاقي وقانوني حاد وإعلان اولي بأن إسرائيل تحولت رسمياً إلى دولة زعيم لا دولة قانون وأن إرادة نتنياهو فوق مؤسسات الدولة كلها وهذا سيُدخل المجتمع الإسرائيلي في صراع داخلي مرير لأن نصفه تقريباً لم يعد يثق بالقيادة أو بالنظام القضائي أو حتى بجدوى الديمقراطية نفسها وحين تفقد الدولة ثقة جمهورها يبدأ الانهيار من الداخل قبل أي تهديد خارجي ولذلك قد يكون هذا العفو الشرارة التي تكشف هشاشة بنية إسرائيل العميقة وتجبر العالم على رؤية الحقيقة التي حاولت تل أبيب إخفاءها لعقود بانها دولة قائمة على القهر وتحكمها شبكات مصالح فاسدة وتستمد قوتها من حماية واشنطن لا من صلابة وتماسك مؤسساتها
قبول العفو عن نتنياهو بصورته الامريكية لن يكون حدثاً داخلياً إسرائيلياً فحسب بل صفارة إنذار للمنطقة كلها فهذا الرجل الذي لم يتردد في فتح أبواب الجحيم في غزة سيعود مبجّلاً ومنتفخاً وأكثر شراسة وسيدفع نحو حرب جديدة فقط ليثبت أنه عاد أقوى وعفو كهذا سيعني أن إسرائيل باتت دولة بلا كوابح ولا محاسبة وأن أي قائد يمكنه ارتكاب المجازر ثم يخرج نظيفاً بفضل تدخل رئيس أمريكي يساري أو يميني وستقرأ الدول العربية ذلك كدليل قاطع على أن إسرائيل لا تحكمها مؤسسات بل رؤساء متعطشون للقوة وأن أي اتفاق سياسي معها يمكن أن ينهار بلحظة بسبب نزوة زعيم فاسد أما الفلسطينيون فسيعتبرون العفو إعلاناً صريحاً بأن الدم الفلسطيني لا وزن له في حسابات العالم وأن العدالة لا تُلتمس إلا خارج المنظومة الدولية التي تحمي المجرمين وتكافئهم
يبقى أن نتنياهو الذي نجا من المساءلة عن جرائم الإبادة في غزة بحماية أمريكية قد ينجو أيضاً من قضايا الفساد إذا ما رضخ هرتسوغ للضغط الخارجي لكن الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي لن ينسيا أن خلف هذا الرجل سجلاً ثقيلاً من الجرائم وأن الإفلات من العدالة في إسرائيل لا يعني الإفلات من العدالة التاريخية والإنسانية وإذا كان العفو سيمنحه مهرباً مؤقتاً فإن المستقبل قد يحمل لحظة أخرى يجد فيها نتنياهو نفسه أمام محكمة لا تملك أي جهة سياسية القدرة على إنقاذه منها
في النهاية ما يحدث ليس خلافًا سياسيًا ولا قراءة مختلفة للقانون بل محاولة موثّقة لعرقلة العدالة والتأثير غير المشروع على مسار القضاء وان تدخل ترامب ومطالبته الرئيس الإسرائيلي منح بنيامين نتنياهو عفوًا رئاسيًا يشكّل في جوهره ضغطًا سياسيًا خارجيًا يستهدف تعطيل إجراءات قضائية منظورة ويضع رأس الدولة أمام ابتزاز مكشوف بين احترام القانون أو الخضوع لنفوذ تحالفات نتنياهو المتهم بجرائم فساد ورشوة وإساءة ائتمان ولا يسعى للدفاع عن براءته أمام المحكمة بل يعمل على الهروب من المحاسبة عبر استدعاء قوة أجنبية لتفريغ القضاء من مضمونه وتحويل العفو إلى أداة لإسقاط لوائح الاتهام بدل مواجهتها إنها ليست قضية شخص بل جريمة سياسية بحق مبدأ سيادة واستقلال القانون ومحاولة فاضحة لتطويع العدالة وإخضاعها لمنطق العلاقات والصفقات في سابقة خطيرة ترقى إلى مستوى التقويض الممنهج للنظام القضائي نفسه
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

