صناعة التفاهة والتجهيل


عمر سامي الساكت

=

 
شهدت الإنسانية في العصر الحديث تحولاً سريعًا نحو الإعتماد بشكل كبير على وسائل التواصل الإجتماعي والإتصال الرقمي لتشكيل الرأي العام وصياغة الأفكار وإنشاء الثقافة، هذه الظاهرة شكلت أكبر التهديدات التي تعصف بالوعي الإجتماعي والتربوي للإنسان وأنتجت كم هائل من التفاهة والجهل المركب، التي تعني استهلاك كل ما هو سلبي والانغماس وفي المحتويات السطحية والأفكار والمعلومات المغلوطة وسريعة الإنتشار، أصبحت اليوم صناعة قائمة بذاتها تسهم في إضعاف القيم الدينية والفكرية والتربوية، وتؤثر بشكل مباشر على الفكر والثقافة والرأي العام والمعتقدات.
إنتشار التفاهة لا يقتصر فقط على إحداث تأثير سطحي في عقول المتابعين، أو الترفيه على الحياة اليومية التي أصبحت تحمل معها تعقيدات بالجملة، بل يمتد ليشكل تهديدًا حقيقيًا لتكوين الوعي الشعبي من خلال تقديم قدوات سلبية تتمثل في الشخصيات المؤثرة الذين يكتسبون شهرتهم من المحتويات السطحية التافهة ويحققون أرباح هائلة تعجز عنها العديد من الشركات الناجحة، وللأسف أصبح الجمهور أكثر انجذابًا لما هو تافه وأقل اهتمامًا بما هو جاد ومفيد، ووفقًا لدراسة صدرت عام 2022م لمركز الأبحاث الأمريكي Pew Research Center أنه يعتمد 63% من الشباب من الفئة العمرية بين 18 و29 عامًا على وسائل التواصل الإجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، وهذه البيئة هي مرتعاً لاستقطاب الأخبار غير الدقيقة والمكذوبة أحياناً، هذه المنصات التي تعتمد على المحتويات القصيرة والفورية، أصبحت الحاضنة الرئيسية لصناعة التفاهة، وحسب إحصائيات من المعهد الأمريكي للأبحاث والتطوير RAND  لعام 2020م فإن الأرقام تظهر أن 70% من النقاشات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على إثارة العواطف والجدل بدلاً من تقديم معلومات مفيدة أو تحليل عميق.
علاوة على نشر الجهل المركب بصناعة الشذوذ الفكري بنشر الإلحاد والتشكيك بالثوابت الدينية وهدم المسلمات الشرعية  والثوابت الأسرية والمجتمعية بنشر الشذوذ السلوكي من خلال نشر أفكار الجندر والنوع الإجتماعي والمثلية والتطبيع مع المحرمات من شرب الخمر والعلاقات غير الشرعية وهدم بنيان الأسرة المسلمة عبر أفكار النسوية الراديكالية، ونشر الإنحراف السياسي من خلال التطبيع مع الكيان الصهيوني وفرض تقبل الواقع، ونشر ثقافة العداء للدولة من التشكيك والنخر في ثوابتها وكل مسؤوليها وموظفيها، بدل النقد البناء الذي لا يرفضه عاقل، أو نشر ثقافة الولاء الأعمى الهمجي العبودي، بدل من الولاء العقلاني المبني على دعم ثوابت ومقدرات الوطن، كل ذلك يتم عن طريق صناعة التأثير وتصدير المؤثرين في العالم الواقعي والعوالم الافتراضية أكثر، هؤلاء المؤثرون الذين ينفذون اختراقاً وزخماً  على العقل الجمعي للنشئ، عبر وسائل التأثير المنظمة.
يرى الفيلسوف الكندي “آلان دونو” أن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يكون إلا بكيفية جماعية أو ما يصفه “بالقطيعة الجمعية”، وليس عبر نشدان الخلاص الفردي، وفي الختام يجب أن نُدرك أن التفاهة والتجهيل ليست مجرد ترفيه عابر، بل هي ظاهرة تُهدد القيم التربوية والفكرية للمجتمع وإن بناء وعي نقدي قادر على مواجهة التفاهة هو السبيل الوحيد لضمان بقاء الأجيال القادمة قادرة على التفكير بعمق وتحليل القضايا من منظور عقلاني. هذا الوعي النقدي يتطلب استراتيجيات وسياسات عمومية تعليمية فعّالة على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد أيضاً،والتي تهدف إلى تعزيز وتطوير التفكير النقدي منذ مراحل التعليم الأولى سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع، لذا أعتقد بأننا علينا أولاً وقف تناقل “الفيديوهات” التافهة على أنها ترفيه وكذلك وقف دعم أو حتى متابعة التافهين “المؤثرين السلبيين” فلا تكن سبباً في شهرة تافه، بل علينا المساهمة في تناقل “فيديوهات” مفيدة في مجال إهتمامات الأهل والأصدقاء والمعارف، وضرورة إشراك الجامعات العربية بنشر إنتاجها العلمي من مشاريع تخرج ورسائل دراسات عليا عبر الشبكة العنكبوتية “الإنترنت” وتشجيع الشباب وطلبة الجامعات على الإسهام في إثراء المحتوى العربي الإلكتروني، إضافة إلى فتح باب التطوع والمشاركة في ترجمة مقالات مختارة من مختلف اللغات إلى العربية، هنالك مواقع على الشبكة العنكبوتية “الإنترنت” مفيدة جداً وثقافية وعلمية وكذلك هنالك أصحاب فكر ومحتوى نافع رغم قلتهم في ظل إنتشار التفاهات، وهنا يأتي دورنا بتشجيع النشئ على متابعة هذه المواقع والمفكرين على قدر سنهم، وتنمية ومتابعة إهتماماتهم وتوسيعها من خلال الاستفادة من الشبكة العنكبوتية “الإنترنت”، الجدير بالذكر بأن الأردن في المرتبة الأولى عربيا من حيث نسبة مساهمتها في صناعة المحتوى العربي على الإنترنت، حيث بلغت نسبة مشاركتنا نحو 75% من إجمالي المحتوى العربي والذي يشكل فقد 3% من المحتوى العالمي، فعلينا أن نكون على قدر المسؤولية ونساهم مساهمة فعالة مفيدة في شتى المجالات التي نستطيع أن نثريها.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.