عملية بيت حانون .. المقاومة لن تخضع وغزة لن تركع

مهدي مبارك عبدالله
==
لم يعد جيش الاحتلال الصهيوني يصحو على نفسه من كثرة وسرعة وشدة ودقة عمليات ابطال المقاومة الفلسطينية وهم يخوضون معركة الشرف والكرامة في اعلى مراتبها ويحققون اسمى الاهداف والغايات ويكتبون شعار النصر بمداد الدم واعز التضحيات بكل قوة وجراءة وتحدي حيث يفجرون الدبابات والعربات ويفخخون الانفاق والمباني المهدمة ويتناوبون على قنص الجنود الصهاينة واستهداف حياتهم بأسلوب موجع ومهين في الليل والنهار وفي احصن مواقعهم وتجمعاتهم بمناطق خان يونس وشمال وجنوب غزة ورفح وجباليا والشجاعية وخان يونس ليرتقي العمل المقاوم المنظم والشجاع في نفوس المجاهدين كرد طبيعي مشروع على استمرار العدوان الصهيوني الغادر بكل وحشية وجنون على شعب و ارض غزة مقبرة الغزاة عبر كل العصور والمعارك
مع اقتراب عقارب الساعة من العاشرة مساء يوم الاثنين الماضي وفي توقيت سياسي وعسكري بالغ الحساسية والخطورة ومن بين الأنقاض وعبر الأنفاق وعلى ارض بلدة بيت حانون الطاهرة شمال قطاع غزة انطلق مجاهدو ابطال القسام لتوجيه ضربة فدائية نوعية بامتياز عدت من أعنف واقسى الضربات التي تلقاها جيش الاحتلال خلال حربه المستعرة على قطاع غزة اسقط فيها المناضلين الشجعان مكانة وقيمة وهيبة واسطورة الجيش الارهابي المتغطرس الذي عاش مجده على فبركة الوقائع العظيمة واصطناع البطولات المزيفة حين مزق ثلة مؤمنة من مغاوير القسام اجساد جنوده الاكثر اجراما ومرغوا معنوياتهم بالأوحال ووجوههم بالتراب وحرقوا شرفهم العاهر وتاريخهم العسكري المخزي والملطخ بكل صنوف الغدر والقتل والمؤامرات
العملية البطولية الاستثنائية جرت في منطقة كان يفترض اصلا أنها خضعت لتمشيط امني مسبق وانها مدمرة بالكامل وهذا ما جعل قادة الاحتلال يثقون بانها اصبحت آمنة ولم يبقِ فيها أي اثر للمقاومة ليفاجئ جنوده في كتيبة العار ( نتسح يهودا ) أثناء مهمة ليلية لهم في بيت حانون بكمين مركب اوقع 5 منهم قتلى واصابت 16 آخرين بينهم ضابط كبير وعدد من الحالات الحرجة فضلا عن فقد جندي واحتراق بعض الآليات والمركبات دون أي قدرة على اطفائها نظرا لشدة الهجوم وشراسة عناصر المقاومة بحسب ما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية
التفاصيل الأولية وفقا للمعلومات الميدانية المتوفرة تفيد بان العملية وقعت في حي الندى شرق ببلدة بيت حانون في توقيت دقيق وبعد متابعة ومراقبة حثيثة فجر ابطال المقاومة عبوة ناسفة شديدة الانفجار زرعت مسبقًا في مسار تحرك آلية عسكرية إسرائيلية تقل جنودًا من وحدتي ( الناحال وكتيبة نيتسح يهودا ) التابعة للواء كفير والتي كانت تقوم بتطهير المنطقة وغالبا ما كان يسند اليها تفخيخ وتفجير منازل الفلسطينيين في القطاع ما ادى الى حالة من الإرباك والصدمة في مشهد امتزج فيه البكاء مع الصراح ليسجل سابقة اعتبرت من أقسى ما سجلته ذاكرة ساحات الميدان منذ بدء الحرب البرية الغاشمة على القطاع
المنطقة المستهدفة بالعملية تطل على مدينة سديروت وتعد واحدة من اهم المناطق التي حاول الجيش الإسرائيلي فرض السيطرة عليها مرارًا وعلى ابوابها دمرت اول دبابة في بدايات عملية ( عربات جدعون ) ومنذ بدء العملية العسكرية في الأسابيع الماضية خضعت بيت حانون لهجمات جوية مكثفة ضمن ما سماه الجيش الإسرائيلي بعمليات التهيئة تمهيدًا للهجوم البري وإن انفجار العبوتين في هذا التوقيت وبهذه الدقة يشير إلى مدى فشل هذه التهيئة وقصورها في تحييد الخطر المحدق بأفراد جيش الاحتلال
كما ان مسرح العملية جرى في المنطقة العازلة على بعد كيلومتر واحد من السياج الحدودي حيث كشف جليا عن توسع حجم الارتباك الأمني والعسكري في صفوف الجيش الصهيوني وأعاد فتح النقاشات داخل إسرائيل حول جدوى استمرار الحرب وسط الانتقادات المتصاعدة لحكومة النتن ياهو من عدة وسائل اعلامية عبرية ومواقع إخبارية عسكرية لا سيما صحيفة ( معاريف ) وإذاعة جيش الاحتلال التي حذرت في وقت سابق من أن العبوات الناسفة أصبحت تمثل التهديد الأخطر لضباط وجنود الاحتلال في القطاع حيث تشير الاحصاءات الميدانية المتتالية الى انه منذ اذار الماضي قتل 27 جندي من أصل 38 بفعل العبوات 19 منهم في كمائن على الطرق و6 نتيجة تفخيخ المباني
العديد من الخبراء العسكريين والمراقبين الميدانيين بينوا ان العملية نفذت بطريقة احترافية كما انها كالعادة وثقت من زوايا متعددة عبر كاميرات خاصة بالمقاومة فيما شاركت في الاشتباك وحدات ميدانية مدربة خرجت من بين الأنقاض وفوهات الأنفاق لتستهدف قوة الإنقاذ التي حاولت التدخل بعد الانفجار الأول وقد اصحاب الخبرة والاختصاص ان هذه العملية المركبة تعتبر من أبرز الهجمات التي نفذت في جبهة الشمال منذ شهور نظرًا لحجم الخسائر التي صاحبتها والتأثير النفسي والمعنوي الذي فرضته على الجبهة الداخلية للاحتلال فضلا عن توقيتها الذي تزامن مع لحظات سياسية حساسة تحيط بإسرائيل داخليًا وخارجيًا
أحد الجنود الناجين من الهجوم صرح بذهول لقد ( اصبحنا كالخراف التي تساق إلى الذبح ) وسط حالة انهيار وفوضى ونحن محاصَرين بالنار والرصاص وما جرى كارثة اثارت لدينا علامات استفهام جدية حول فعالية الضربات الجوية ومدى قدرة القسام على تجاوز إجراءات التحصين وقدرتهم على الافلات من وسائل المراقبة التقليدية والتكنولوجية الحديثة بل وتطويعها لصالح المقاومة
من الواضح لجميع المتابعين ان ما حدث في بيت حانون يدل على تطور نوعي في وكمي في قدرات المقاومة الفلسطينية خاصة في ما يتعلق بعمليات الرصد والتخفي والعمل الليلي وبما يعكس تفوق المقاومة مقابل فشل استخباري متكرر لجيش الاحتلال كما يبين ان تكتيك وأسلوب المقاومة في الهجمات الاخيرة تطور وتقدم إذ لم تعد الامور تقتصر على مسألة القيام بالتفجير فقط بل أصبحت تشمل ايضا الاشتباك مع فرق الإخلاء والإسعاف والاسناد ما يؤدي إلى مضاعفة الخسائر وتحطيم المعنويات خاصة وأن تنفيذ العملية ليلا وزرع وتفجير عبوات ناسفة في هذه المنطقة بالتحديد يفسر بشكل مؤكد امتلاك المقاومين لتقنيات رؤية ليلية ومهارات تدريبية متقدمة في المراقبة مع الفهم التكتيكي بان تنفيذ مثل هذه الكمائن لا يعتمد فقط على زراعة العبوات وتفجيرها بل يتطلب رصدًا ومتابعة دقيقًة لتحركات القوات الصهيونية وتوقع مسارها مسبقًا وهو ما يشير إلى العمل الاستخباري المعقد وطويل الأمد الذي تقوم به عناصر المقاومة في كل مناطق القطاع
لا زال جنود الاحتلال حتى الساعة في خوف متواصل وحيرة مستبدة وهم يتسألون فيما بيهم باستغراب شديد عن كيفية وصول مجموعة فلسطينية مقاتلة إلى منطقة حيوية مفتوحة يفترض انه تم تمشيطها مسبقا وأنها خاضعة للسيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي منذ عام ونصف تقريبًا وكيف تمكنوا من زرع أربع عبوات ناسفة بينها عبوة تم تفجيرها عن بُعد دون أن يتم رصدهم أو إحباط تحركاتهم وهو ما فُهم على اعلى المستويات الامنية والعسكرية بانه خلل استخباري وتشغيلي كبير مقابل استعداد وجهوزية المقاومة وقدرتها على المبادرة والمهنية الهندسية العالية والتكتيك العسكري المنظم والاستخدام الذكي لسياسة الأرض المحروقة والأنفاق العمياء والكمائن النارية المكثفة بالتوازي مع تحويل الطرق المجمرة والمباني المهدمة إلى شبكة الفام شديدة التعقيد تحاصر قوات الاحتلال من كل جانب حتى أن المقاتلين الفلسطينيين لم يعودوا يكتفون بتنفيذ الكمين والانسحاب بل أصبحوا ينتظرون ويتصدون لقوات الإنقاذ والدعم والإسناد بالاشتباك المباشر بالرشاشات والقذائف الصاروخية المضادة للدبابات
على صعيد الجبهة الاسرائيلية الداخلية أن تكرار هذه الكمائن يخيف ويربك الإسرائيليين ويفاقم الغضب الشعبي لديهم ويؤدي إلى تراجع الثقة في القيادة العسكرية وقد أظهرت استطلاعات الرأي الاخيرة بأن ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2006 في حين ارتفعت نسبة القلق والخوف من استمرار الحرب وارتفاع عدد القتلى والمصابين وازدياد الخسائر إلى أكثر من 68%. وهي نسبة حقيقية مرتفعة امام غطرسة وغرور النتن ياهو خاصة بعد الهجمات الجوية على ايران وما يدعيه من القضاء على حلمها النووي
الاثار الارتدادية الاولية للعملية بينت انها شكلت صفعة سياسية مدوية في لحظة مفصلية حرجة لرئيس الوزراء الصهيوني النتن ياهو أمام الإدارة الأميركية وهو يتبختر في واشنطن ويروج لرواية اقتراب الحسم العسكري في غزة والقضاء على المقاومة واقتراب موعد استسلامها وترحيلها بينما أثبتت العملية البطولية على الارض أن المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها لا تزال تحتفظ بأوراق القوة وتتحكم بنوع وحجم وتوقيت الضربات التي توجهها لقوات الاحتلال المرتبكة ولا زالت ايضا تمتلك القدرة على تصعيد وتثوير الفعل المقاوم رغم مرور أكثر من 640 يوم على الحرب كما أظهرت الامكانات العالية في الرصد والتخطيط والتنفيذ من نقطة الصفر في بيئة شديدة التعقيد ومحدودة التحرك وقد فضحت العملية كذلك زيف التصريحات العسكرية الإسرائيلية التي ادعت مسح بيت حانون عن الخارطة الغزية بعد أن نُفذت العملية من داخلها مما يعكس ثانية الفشلً الاستخباراتي والميداني الكبيرً لجيش الاحتلال الذي يمارس عربدته ويستعرض قوته في قصف الاطفال والنساء العزل ويستهدف المستشفيات والمدارس وخيام المشردين ومواكب المجوعين ويفرض سياسة التجويع وعدم السماح بالعلاج هلى امل تحقيق هدفه الاجرامي بالطرد والتهجير
الكمين الحمساوي المركب كان لافت بكل المقاييس بقوته ونتائجه وتأثيره حيث كشف بصورة فاضحة عن هشاشة ما يسمى بمنظومة ( عربات جدعون ) التي روج لها الاحتلال بأنها افضل مشروع عسكري وتقني متطور لمواجهة عمليات الأنفاق والعبوات الناسفة لكن في النهاية تبين عجزها الكامل عن رصد تحركات المقاومين أو منع تنفيذ مثل هذه الهجمات المؤلمة كما اكدت دقة وفاعلية الكمين بان سيطرة الجيش الإسرائيلي على جميع المناطق هي قضية هشة ومؤقتة تزول سرديتها المضخمة في مع كل مواجهة و منازلة
بالحقيقة الراسخة ان ما جرى في بيت حانون اثبت انه ليس مجرد ضربة عسكرية تكتيكية بل هو رسالة استراتيجية عميقة موجهة من قيادة حركة حماس الى جيش الاحتلال بأن سياسة الحسم العسكري قد فشلت وأن المقاومة قادرة على إدارة معركة استنزاف ذكية ترهق وتربك الاحتلال على كافة المستويات السياسية والميدانية والتفاوضية خاصة بعدما اصبح جيش الاحتلال يشعر بأنه يقاد نحو الهاوية دون اي غطاء سياسي ما يزيد من احتمالية انفجار موجة مسائلة ومحاسبة داخلية في حال استمرارية الخسائر في اعداد القتلى والجرحى والمعدات وقاء غزة ترسم معادلاتها بالدم والمفاجآت والرسالة الأهم في ثنايا وزوايا العملية هي أنه ( لا مفاوضات تمر بيسر وسهولة بينما غزة تحترق وحدها ولا حرب بلا كلفة باهظة على الاحتلال والشعب الفلسطيني يموت ابادة وجوعا ومرضا )
عمليا بيت حانون لم تعد مجرد بلدة حدودية منكوبة ومدمرة ترثي اطلالها بل تحولت إلى نموذج فريد لأرض حرة ترفض الاحتلال ميدانيًا حيث تعيد المقاومة السيطرة عليها قبل وبعد كل انسحاب إسرائيلي متهالك باستخدام شبكة أنفاق متطورة تمكن المقاتلين من التموضع والانسحاب الآمن في تحولً نوعي لأدوات الاشتباك ورسائل المقاومة وسط معادلات إقليمية ودولية دقيقة تعيد المقاومة الفلسطينية تثبيت القاعدة التي تقول إن ( الميدان لا يزال هو اللاعب الأقوى في المعادلة السياسية والعسكرية )
لهذا وغيره الكثير على النتن ياهو وعصابته الاجرامية الحاقدة سدنة الهيكل ان يدركوا بان الشعب الفلسطيني الصامد في غزة خاصة وعموم فلسطين هو صاحب الارض حصرًا والامين عليها شرعا وهو من يصنع البطولات ويقر المعادلات ويرسم معالم المرحلة القادمة تحت شعار مرحى للجوع والموت والدمار على قاعدة ان ( المقاومة لن تخضع وغزة لن تركع )
اخيرا نؤكد للمرة المليار أن استمرار العدوان والمجازر والدمار والابادة الجماعية لن يكسر إرادة المقاومة أو يضعف عزيمتها او يوقف مسيرتها الايمانية والوطنية نحو التحرير والعودة وستبقى البندقية الشريفة بيد الفدائي الثائر محشوة برصاص العزة والكبرياء هي الخيار الاستراتيجي الوحيد للشعب الفلسطيني العظيم في معركة التحرير والاستقلال ولتحقيق هذه الغاية النبيلة لا بد للمقاومة من تنفيذ المزيد من العمليات النوعية واسر جنود جدد والشروع بحرب استنزاف طويلة الامد واستهداف المطارات والموانئ والمدن والمدنيين الصهاينة اذا ما بقيت قوات الاحتلال الصهيوني جاثمة على صدر غزة الصابرة وشعبها الصامد حتى يخرجوا صاغرين ومهزومين من كل شبر في القطاع وهم يجرون خلفهم اذيال الخيبة والفشل وان غدا لناظره قريب وما تحرير الاقصى عنا ببعيد بحول من الله صادق الوعد القوي العزيز
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com