عمّان في مؤشر المدن العالمي: مكامن القوة والتحديات التنموية


أ.د. عمر خليف غرايبة

أصدر مركز Oxford Economics تقريره السنوي بعنوان “مؤشر المدن العالمية 2025″، والذي يرصد أداء ألف مدينة كبرى حول العالم استنادًا إلى خمسة محاور رئيسية: الاقتصاد، ورأس المال البشري، وجودة الحياة، والبيئة، والحوكمة، ووفقًا للتقرير، جاءت مدينة عمّان في المرتبة376 عالميًا، وهو ترتيب متوسط يعكس واقعًا مركبًا بين مكامن قوة واضحة وتحديات بنيوية متراكمة.

في قراءة تفصيلية لأداء عمّان، برز محور رأس المال البشري كأفضل مؤشر للمدينة، حيث احتلت المرتبة 82 عالميًا، هذا التصنيف يعكس نجاح الأردن في بناء منظومة تعليمية مستقرة نسبيًا، وانتشار الجامعات والكليات، ووجود قاعدة شبابية واسعة، كما أن الاهتمام المتزايد بريادة الأعمال والمهارات الرقمية خلال العقد الماضي ساهم في تعزيز هذا الموقع، ويعد هذا المحور من الركائز التي يمكن البناء عليها لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المستقبل.

أما على صعيد الاقتصاد، فقد جاءت عمّان في المرتبة 396 عالميًا، وهو ترتيب يعكس ضعف الأداء الاقتصادي مقارنة بالعديد من المدن الكبرى، سواء في المنطقة أو على مستوى العالم، ويُعزى هذا الأداء إلى محدودية حجم الاقتصاد الأردني، وضعف التنوع القطاعي، وارتفاع معدلات البطالة، فضلًا عن الاعتماد النسبي على المساعدات الخارجية والتحويلات من الخارج، وتظل كلفة الطاقة والضرائب من أبرز العوائق التي تحد من تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي.

فيما يتعلق بمحور جودة الحياة، سجلت عمّان مرتبة متأخرة هي745 عالميًا، ما يعكس عدة مشكلات حضرية مثل ازدحام المرور، وضعف شبكة النقل العام، وارتفاع تكاليف المعيشة مقارنة بالدخل، ونقص المرافق العامة، هذه العوامل تؤثر مباشرة على رفاهية السكان، خاصةً للطبقة المتوسطة والشرائح ذات الدخل المحدود، ويشير ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات الحضرية وتحسين التخطيط العمراني.

في المحور البيئي، جاءت عمّان في المرتبة619 عالميًا، وهو ترتيب متوسط يميل إلى الضعف، ويشير إلى تحديات مثل تلوث الهواء، وشح المياه، وضعف إدارة النفايات، ومحدودية المساحات الخضراء. كما أن الاعتماد المحدود على مصادر الطاقة المتجددة يضع الأردن في موقع ضعيف فيما يخص التحول البيئي، رغم بعض المبادرات الواعدة.

أما في محور الحوكمة والإدارة المحلية، فقد احتلت عمّان المرتبة563 عالميًا، وهذا يعكس الحاجة إلى إصلاحات مؤسسية تتعلق بفعالية السياسات العامة، ومستوى الشفافية، ومشاركة المواطنين في صنع القرار، كما يُبرز التقرير التحديات المتعلقة بتعقيد الإجراءات الإدارية والبيروقراطية، مما يؤثر سلبًا على جودة الخدمات العامة واستجابة المؤسسات لاحتياجات المواطنين.

وعلى مستوى الدول العربية، جاءت عمّان في المرتبة التاسعة عربيًا من بين المدن العربية المصنفة ضمن المؤشر، متقدمة على مدن مثل تونس (529)، والجزائر (389)، وبغداد (709)، والخرطوم (878)، ومتأخرة عن دبي (51)، والرياض (97)، والدوحة (164)، وأبو ظبي (184)، والقاهرة (302)، والدار البيضاء(345) ورغم أن عمّان تسبق عددًا من العواصم الإقليمية في بعض المحاور مثل التعليم والحوكمة، إلا أنها تتأخر في الجوانب البيئية والحضرية.

تشير هذه النتائج إلى أن عمّان ليست مدينة متعثرة بقدر ما هي مدينة تبحث عن إعادة التوازن بين عناصر النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، فبينما يتوفر رأس المال البشري، يبقى التحدي في تفعيل دوره من خلال سياسات اقتصادية فعالة، وتحسين البنية التحتية، وتقوية الحوكمة.

وفي ضوء هذه المعطيات، يوصي التقرير بضرورة تبني سياسات تركز على التحول الرقمي، وتحسين النقل العام، وتشجيع الابتكار، وتخضير المدينة، وتوسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، كما يُعد تمكين المجالس المحلية وتعزيز الشفافية والمساءلة من أبرز شروط تعزيز الحوكمة وتحسين ترتيب المدينة عالميًا.

خلاصة القول، يُبرز تقرير “مؤشر المدن العالمية 2025” أن الاستثمار في الإنسان، وتحسين البيئة المؤسسية، وإعادة ترتيب الأولويات التنموية، هي مفاتيح ارتقاء عمّان إلى موقع أكثر تنافسية عالميًا، فالمدينة التي تمزج بين عمق التاريخ وروح العصر، قادرة على النهوض إذا ما تم تسخير طاقاتها الكامنة بذكاء وإرادة واضحة، ولعلّ السؤال الذي ينبغي أن يوجّه السياسات اليوم ليس فقط: “كيف نُحسّن ترتيب عمّان؟” بل “كيف نجعل من عمّان مدينة أكثر عدلًا وازدهارًا لأبنائها؟” فمدن العالم لا تُقاس فقط بالأرقام، بل بالفرص التي تخلقها لأهلها، وبالكرامة التي تضمنها لحياتهم اليومية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.