قصة الخداع التي لم تُروَ : رحلات التهجير الصامت من غزة إلى جنوب أفريقيا !


مهدي مبارك عبدالله

 

منذ اندلاع الحرب على غزة تتواصل محاولات إسرائيل تفريغ القطاع من سكانه عبر أدوات متعددة تستهدف إنهاك المجتمع الفلسطيني ودفعه تدريجيًا نحو الرحيل وليست هذه السياسة جديدة فهي جزء من مسار طويل يقوم على تحويل الضغوط العسكرية إلى مسارات هجرة قسرية تتخفى تحت غطاء الإجلاء الإنساني أو السفر الطارئ ولتحقيق هذه الغاية تعتمد إسرائيل على شبكات من الوسطاء والمنظمات الوهمية وشركات الطيران والجهات الأمنية التي تنسق فيما بينها لإخراج الفلسطينيين من أرضهم دون إعلان رسمي وقد ظهرت أمثلة عديدة خلال الأشهر الماضية على رحلات تم ترتيبها بطرق غامضة انطلقت من مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال ووصلت إلى بلدان بعيدة دون علم السلطة الفلسطينية أو الجهات الدولية المستقبلة

من خلال تتبع خطوط وخيوط هذه العمليات السرية والمعقدة اتضح أنها ليست مبادرات إنسانية متناثرة بل سلسلة حلقات مترابطة ومنظمة تديرها شبكات خفية هدفها الاساس إعادة تشكيل الواقع الديمغرافي لغزة بما يخدم التصور الإسرائيلي للمستقبل السياسي للسيطرة على المنطقة حيث كانت إسرائيل في كل مرة تختبر ردود الفعل الدولية عبر إخراج مجموعات صغيرة بطرق غير رسمية بعضها عبر معابر جانبية والبعض الاخر بترتيبات امنية غامضة لا تكشف الوجهة أو الجهات القائمة عليها حيث كانت تلك الاختبارات بمثابة بروفة أولى لمعرفة مدى قدرة الاحتلال على تمرير عمليات خروج اكبر وبشكل جماعي من غزة دون أن تعد تهجيرًا قسريًا ومع كل تجربة تتلاحق الأدوات وتتطور والأساليب لتصبح أكثر إتقانًا وصولًا إلى حين اللحظة التي انفجرت فيها القصة علنًا على ارض مطار جنوب أفريقيا

البداية الحقيقية لهذه الحادثة المؤلمة لم تكن في جوهانسبرغ بل في غزة نفسها حين خرجت مجموعة من الفلسطينيين من معبر كرم أبو سالم بعد أن سمح لهم الجيش الإسرائيلي بالمغادرة وتؤكد الشهادات اللاحقة أن المسافرين جردوا من متاعهم وحجزت هواتفهم وأوراقهم الخاصة وحتى ملابسهم الإضافية وقد بدا الأمر أشبه بعملية عزل ممنهجة تهدف إلى خلق مسافرين بلا أي دليل للتعرف على جذورهم أو ارتباطهم بمكانهم الأصلي ثم صعدوا إلى حافلات عسكرية نقلتهم إلى مطار رامون وهو المطار الذي حاولت إسرائيل مرارًا استخدامه كبوابة سفر بديلة عن غزة المحاصرة

في مطار رامون ظهرت إحدى أهم الثغرات في القصة حيث لم تختم جوازات المسافرين بختم الخروج وهذه النقطة التي قد تبدو تفصيلًا إداريًا بسيطًا تحولت في التحقيقات المتواصلة إلى حجر الأساس في عملية التهجير المقنّع حيث يصبح الراكب بلا سجل خروج رسمي من بلاده وبلا نقطة انطلاق قانونية ما يفتح الباب أمام إسقاط هويته الورقية لاحقًا والاغرب ان الطائرة التي صعدوا إليها لم تكن تحمل شعار شركة طيران ولا رقم رحلة ولا أي تفاصيل رسمية مما حول السفر إلى عملية نقل مجهولة المصدر والهوية

وضمن هذا الفراغ المريب ظهرت منظمة تدعى ” المجد أوروبا ” عبر موقع إلكتروني منشأ حديثًا وفيه صور موظفين مزيفة تولدها برامج الذكاء الاصطناعي وأرقام اتصال تعود لجهات مرتبطة بالاستخبارات الإسرائيلية وكل ذلك جمع خيوطًا متشابكة لواجهة وهمية تهدف إلى إضفاء طابع ( الإجلاء الإنساني ) على عملية اتضح أنها كانت جزء من هندسة سكانية تستهدف الفلسطينيين في القطاع والأخطر أن هذه المنظمة جمعت مبالغ كبيرة من المسافرين تراوحت بين 1500 و5000 دولار ثم اختفت تمامًا من المسرح بعد تنفيذ المهمة تاركة ضحاياها في حالة من الضياع والإرباك والصدمة

عندما وصلت الرحلة الأولى إلى جنوب أفريقيا لم تنتبه السلطات الامنية هناك إلى حجم المخطط حيث استقبلت 176 فلسطينيًا ظلوا موزعين بين فنادق بسيطة ومراكز ضيافة لكن بعد أقل من أسبوع بدأت الصورة تتضح وتتغير اذ اكتشفت سلطات الهجرة أن المسافرين بلا اختام خروج على جوازاتهم وأن الجهة التي رتبت الرحلة غير موجودة فعليًا وأن إسرائيل لم تبلغ جنوب أفريقيا بأي تفاصيل عن الرحلة القادمة اليها ما أعطى انطباعًا بأن الركاب أُرسلوا إلى القارة السمراء بلا تنسيق مسبق أو أي مسؤولية لأي جهة محددة

بعدما تعمق الخبراء في التحقيقات توصلوا إلى أن ما جري ليس خللًا إداريًا أو إهمالً في التنظيم بل هو إجراء مدروس يفقد بموجبه الفلسطيني وضعه القانوني كمسافر ويجعله في نظر الدولة المستقبلِة ( حالة مجهولة الانتماء ) وهو ما يفتح الباب أمام اعتباره مهاجرًا عشوائيًا وليس شخصًا خرج بسبب ظروف الحرب ويحمل حقًا أصيلًا في العودة الى بلاده

الانفجار الحقيقي للقضية جاء مع الرحلة الثانية التي وصلت فجر 13 نوفمبر 2025 إلى مطار OR Tambo حيث حملت الطائرة 160 فلسطينيًا تركوا في داخلها لساعات في ظروف قاسية لأن السلطات الجنوب أفريقية لم تعثر لديهم على أي وثيقة تؤكد من أين غادروا أو من المسؤول عنهم وفي تلك اللحظة تحولت القصة من مجرد شكوك إلى قضية سياسية وقانونية مكتملة الأركان خصوصا وان الصور التي خرجت من داخل الطائرة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وفجرت الرأي العام ومع الضغط الشعبي والإعلامي تدخل الرئيس سيريل رامافوزا وسمح بدخولهم البلاد كإجراء إنساني استثنائي قبل أن تُسلَّم المجموعة إلى جهة إغاثية محلية تتولى رعايتهم

عند انكشاف الخيوط الكاملة لرحلات الخداع أعلنت حكومة جنوب أفريقيا رفضها استقبال الرحلة الثالثة حيث ادركت ان بلادها ا تستغل كمعبر تهجير مقصود لا كملاذ إنساني ولذلك فتحت تحقيقًا شاملًا في نشاط منظمة المجد أوروبا المشبوهة وهو ما كشف ثغرات قانونية هائلة في ممارسات الشبكة الاحتيالية التي بدأت من غزة وانتهت على أبواب جوهانسبرغ والتي ارادت تحويل جنوب أفريقيا الدولة التي خاضت نضالًا طويلًا ضد الفصل العنصري وقادت المعركة القضائية ضد إسرائيل في محكمة لاهاي والتي تعتبر خط دفاع أخلاقي ترفض أن نكون شريكًا في عملية إبعاد الفلسطينيين عن وطنهم

مع كل هذه التطورات اتضحت واجهة أخرى من القصة بان هناك حملة إعلامية وسياسية إسرائيلية منظمة تسعى إلى تصوير غزة بانها منطقة غير صالحة للسكن والعيش وإظهار خروج الفلسطينيين حتى لو كان قسريًا على انه خيار شخصي وواقعي ومنطقي وهذا الخطاب الاسرائيلي الذي غلف عمليات التهجير بغطاء الحل الإنساني هو امتداد طبيعي لممارسات صهيونية تاريخية هدفها تغيير الوقائع الديمغرافية في ارض فلسطين عبر وسائل ناعمة لا تترك وراءها أدلة دامغة تدين تل ابيب

بعدما تكشّف خيوط هذه العملية الاجرامية تتعاظم الحاجة اكثر الى تحذير أبناء غزة من الوقوع في أي إغراءات قد تبدو في ظاهرها فرصًا للخروج المؤقت أو النجاة السريعة من واقعهم المرير فقد بات واضحًا أن إسرائيل تعمل في الخفاء عبر شبكات وسطاء محليين وجهات خارجية ومنظمات وهمية تستغل الضيق الإنساني والمعاناة اليومية لتدفع الغزيين نحو مسارات سفر مجهولة تتمثل في عدة عروض تقدَم تحت عناوين الإغاثة أو الفرصة الأخيرة للنجاة لكنها في حقيقتها أدوات سامة لاقتلاع الناس من أرضهم وتجريدهم من هويتهم القانونية وتركهم بلا ضمانة للعودة الى ديارهم ومن هنا يصبح الوعي الشعبي هو خط الدفاع الأول في رفض الانجرار خلف الوعود المضللة مهما اشتدت الظروف وما يجب ان يفهمه الغزيين ايضا ان نشر الوعي الوطني العام ليس مسألة فردية بل دفاع عن حق جماعي في البقاء على ارض الوطن وعدم الوقوع في مصيدة التهجير الهادئ الذي يراد له أن يبدو خيارًا طوعي بينما هو في الحقيقة نزع قسري للهوية والمكان والوجو

الثابت الوحيد في هذه اللعبة المخابراتية أن الفلسطينيين الذين وصلوا إلى جنوب أفريقيا لم يكونوا يبحثوا عن وطن بديل بل كانوا يحاولون النجاة من جحيم حرب لا ترحم كما انهم لم يطلبوا بالهجرة ولم يفكروا في ترك وطنهم وكان خروجهم استثناءً فرضته الظروف لا خيارًا شخصيًا كما تدعي اسرائيل زور وبهتان ولو أن ختمًا بسيطًا وُضع على جوازاتهم لكان وضعهم القانوني مختلفًا ولكن إسقاط هذا الختم مثل لبّ الخطة التي هدفت إلى خلق بشر بلا جذور في الأوراق ليصبح إثبات حقهم في العودة الى وطنهم شبه مستحيل وهذا هو جوهر مخطط التهجير الهادئ الذي ارادته اسرائيل بلا ضجيج وهو يمر بسلاسة عبر المطارات والمنظمات الوهمية بدل من استخدام الدبابات وفرض التوجيهات والقرارات الرسمية

إن ما حدث بكل تفاصيله يكشف شكلًا جديدًا من الحرب الاسرائيلية التي تستهدف السكان قبل الأرض وضرب جذور المجتمع الفلسطيني عبر دفعه إلى الرحيل بعيدًا عن وطنه والخديعة التي جرت في جنوب أفريقيا ليست سوى فصل واحد من قصة أكبر تتعلق بما يمكن أن يتكرر في دول اخرى إن لم تقف دول العالم العربي والإسلامي والجهات الدولية في وجه هذا المسار الملوث بسموم الترانسفير العنصرية فحين تبدأ سياسات التهجير بهذا الهدوء والتمويه فإن نهاياتها سوف تكون أكثر قسوة واتساعً

وفي النهاية وعلى الرغم من ان جنوب أفريقيا قدمت مثالًا حيا على قطع الطريق امام تلك السياسات الاسرائيلية الاحتيالية الا انها وحدها لن تكون كافية للقضاء على هذا الوباء وإن لم يتحول هذا الموقف إلى نهج دولي صارم خاصة وان هذه الممارسات تتخفى خلف شعارات إنسانية زائفة قد تتحول الى اسلوب ونمط متكرر لرسم مستقبل الفلسطينيين خارج أرضهم في المرحلة المقبلة وفي كل الأحوال على العالم اجمع ان يعرف حقيقة راسخة مفادها ان الشعب الفلسطيني لا يرغب في ترك وطنه ولا يسعى إلى الهجرة من ارضه أما التهجير والاقتلاع فهو مشروع يفرض عليه بقوة السياسة والحرب لا بخيار حر يصنعه بنفسه

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.