كيف أسقط ترامب وقار المنصب الرئاسي بالغزل المبتذل والاهانات الفاضحة

مهدي مبارك عبدالله
رغم وقوف الرئيس الأمريكي المستصبي دونالد ترامب على ابواب الثمانين من عمره واعتلائه منصب رئيس اكبر دولة في العالم وزواجه 3 مرات ودخوله حياة الجد والاحفاد مما يفرض عليه الالتزام بسلوكيات وقورة ومتزنة ورصينة وعقلانية الا انه بقي غارقا في حياته العبثية الخاصة والعملية في طباع مراهقة متأخرة امتدت بلا خجل من الغزل الفج الى التحرش المبتذل والشتائم النابية والاهانات الفاضحة لنساء من مختلف الاعمار وفي معظم المجالات داخل السلطة وخارجها وفق قاعدة ( غزل لمن تطيعه وشتائم لمن تقف بوجهه ) وكأن ترامب المراهق لا يعرف حدود المنصب والعمر حيث اشتهر ترامب بالظهور مع فتيات جميلات منذ أيام دراسته حتى أن الكتاب السنوي الذي الذي اصدرته مدرسته الثانوية انذاك وصفه بأنه ساحر النساء وهو يقدم نفسه بلا خجل كزير نساء منذ انخراطه في المدرسة العسكرية للذكور في ستينيات القرن الماضي
في كل مرة يظهر فيها دونالد ترامب على المنصة تبدو الولايات المتحدة وكأنها تدخل إلى مسرح استعراضي لا قاعة خطاب سياسي أحدث تجلّيات هذا الانحراف كان حديثه الغزلي الفج قبل ايام قليلة عن المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت 28 عام في تجمع ماونت بوكونو الذي كان من المفترض أن يركز فيه على واقع الاقتصاد لا على شفاه امرأة تصغره بخمسين عامًا ومع ذلك كان ترامب وفياً لطبعه القديم الذي يخلط السياسة بالغرائز والقيادة بالنزوات والموقع الرئاسي بالاستعراض الشخصي حتى بدا كما لو أن الرجل يعيد تعريف وظيفة رئيس الجمهورية الامريكية على أنها وظيفة المتغزّل الأول في الدولة ليكون القدوة لمن سياتي بعده
لم يكن المشهد عرضياً أو زلّة لسان ترامب خاصة وانه كرّر المديح المبالغ فيه لليفيت وركز على شكلها وطريقة حديثها وخاض في أوصاف بدت أقرب إلى الغزل الصريح منها إلى الثناء المهني وقد بدا وكأنه يعتبر ظهورها الإعلامي رصاصة سحرية في حملته في لغة هابطة تضرب صورة مؤسسة البيت الأبيض نفسها إذ اختزل الناطقة الرسمية في جمالها وتفاصيل مظهرها لا في مهاراتها أو دورها واللافت أن حديثه جاء في تجمع انتخابي مزدحم لا في جلسة خاصة ما يعكس ثقة كاملة بأن الخطاب الشهواني الاستعراضي هو ما يشعل حماس الجمهور
الحقيقة أن سلوك ترامب مع ليفيت ليس التجاوز الوحيد من هذا النوع بل هو جزء من نمط متكرر له جذوره الطويلة في سجله الشخصي فقد سبق له أن أظهر إعجابًا فجًا بسيدات عملن في إدارته أو في محيط البيت الأبيض وتعامل مع بعضهن بنبرة تجمع بين التعالي والغزل السطحي وتعبيراته الشهيرة التي لطالما سببت له متاعب سياسية وإعلامية ومن يتتبع خطبه وتصريحاته ومقابلاته خلال السنوات الماضية يجد أن المراهقة المتأخرة باتت جزءاً من شخصيته العامة سواء شاء الجمهوريون الاعتراف بذلك أم لا
اهتمام ترامب الاخير بليفيت ليس جديدًا حيث سبق أن وصفها بالطريقة ذاتها خلال مقابلة مع ” نيوزماكس ” في أغسطس الماضي واشار إلى أنها أمرأه رائعة واضاف لا أعتقد أن أي رئيس حصل على سكرتيرة صحفية أفضل منها شكلا وهي متزوجة من مطور العقارات نيكولاس ريتشيو (60 عام ) وقد عملت سابقًا كسكرتيرة صحفية مساعدة خلال إدارة ترامب الأولى بين 2019 و2021 قبل أن تعود للعمل ضمن فريق حملته الانتخابية في يناير 2024 لتصبح أصغر سكرتيرة صحفية في تاريخ البيت الأبيض
مقابل سقطات هذا الغزل الفج كان لترامب وجه آخر لا يقل فجاجة وهو يمتلئ بالإهانات تجاه النساء اللواتي اختلف معهن سياسياً سنذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر فمثلا النائبة إلهان عمر كانت هدفًا دائمًا لسخريته وشتائمه إذ وصفها مراراً بعبارات جارحة لا تليق برئيس دولة والأمر ذاته انطبق على النائبة الفلسطينية الأصل رشيدة طليب التي تعرضت لهجوم مستمر منه فقط لأنها تتبنى مواقف معارضة له وحتى نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب السابقة لم تسلم من لسانه حيث قدحها بنعوت لا علاقة لها بالخلاف السياسي وكامالا هاريس مرشخة الرئاسة السابقة وخصمه وصفها ترامب بالقبيحة بشكل لا يصدق وأنها اشتراكية ولمح إلى أنها ليست من مواليد أميركا كما سخر منها ومن ضحكها وهذا ما ما يعكس حجم النوايا العدائية الشخصية ضد كل امرأة قوية تقف في وجهه
لقد استغل ترامب منصب الرئاسة مرات عديدة لمهاجمة عشرات النساء كما استخدم خلال فترة ولايته الاولى والثانية كلمات وعبارات عنصرية مثيرة للانقسام ومهينة من قبيل “القبيحة” و”البدينة” و”الحمقاء” والبلهاء” و”البغيضة” و”سيئة السمعة وسخيفة جدا كما سخر من مظهر نسوة لم يرقن له أو كن ضمن ضده في معترك السياسة وقد اظهر مرات عديدة إيحاءات جنسية ضد يعض النساء حتى أن بعض الرجال مثل النساء تعرضوا لسهام هجماته وانتقاداته اللاذعة وان تعليقاته بشأن النساء غالبا ما ركزت على إهانة مظهرهن وتفاصيل أجسادهن كما كان يتحدث عنهن بجفاء واحتقار واضحين أو يشببهن أحيانا بحيوانات واكثر كلماته فيها ميولات واضحة لكره النساء كالتي تظهر يوميا على مواقع الإنترنت أو في حساباته الشخصية
هذه الازدواجية بين التغزل ببعض النساء والإهانة القاسية لغيرهن تكشف طبيعة تفكير ترامب نفسه فهو ينظر للمرأة من زاويتين لا ثالث لهما إما جميلة ومطيعة وقابلة للاستثمار السياسي والإعلامي وإما عدوة تستحق السخرية والتقليل من شأنها وهنا تتحول السياسة إلى مرآة نفسية تكشف أن ترامب لا يتعامل مع النساء كقيادات أو شخصيات سياسية مستقلة بل كعناصر إما تخدم صورته أو تهددها
ما يزيد الظاهرة خطورة هو أنها تصدر من رجل يشغل أعلى منصب في الولايات المتحدة في دولة تدعي قيادة العالم الديمقراطي فحين يطبّع رئيس سابق لغة الغزل داخل السياسة أو لغة الشتيمة داخل المؤسسات الغامة والخاصة فإنه يضرب قواعد الاحترام التي تبنى عليها الديمقراطية ويحول النقاش السياسي من تقييم مواقف إلى تقييم أجساد ومظاهر ومن نقد سياسات إلى تحقير خصوم ويزداد الخطر حين نلاحظ أن جزءًا من قاعدته الانتخابية يصفق لهذه اللغة ويعتبرها صراحة وجراءة محببة بينما تراها قطاعات واسعة في الولايات المتحدة بانها تعبيرًا مرفوض عن فوضى أخلاقية وتراجع في مستوى الخطاب السياسي وتحويل الموقع الرئاسي إلى منصة للتهريج ولغة النوادي الليلية لا للقيادة والقدوة
هنالك عشرات النساء اللاتي عملن مع ترامب او تعاملن معه اجتماعيا كشفن في مقابلات صحفية ان لديه نمطا من السلوك المزعج في اعلب الاحيان وإن ترامب تعامل مع المرأة كأداة للجنس وإنه هدة مرات أدلى بتلميحات بشأن أجسادهن رغم انه كان يسعى الى تشجيعهن على النجاح في العمل وفي اقعة أثناء مقابلات لاختيار موظفات للعمل ضمن مشروع عمله في لوس أنجليس أدلى ترامب بتعليق مفاجئ عن نساء جنوب كاليفورنيا قائلا ( إنهن يعتنين بمؤخراتهن بشكل جيد ) وقصة ترامب مع النساء تبدأ بالتحرش والغزل برشاقة القوام وتنتهي بدعم السمينات المجتهدات والكفؤات
كما اتهمت 26 امرأة على الأقل من بينهن ملكة جمال ولاية يوتا السابقة وسيدة أعمال وصحفية وموظفة استقبال الرئيس الأميركي ترامب خلال مؤتمر صحفي عقد عام 2016 بسوء السلوك الجنسي بما في ذلك الاغتصاب والتحرش وتعمد ملامستهن حميمياً من الخلف أو ملاطفتهن بشكل غير لائق أو تقبيلهن من الفم جبرا أو الإساءة إليهن أو مضايقتهن
لا يمكن فصل هذا الخطاب المتهور عن الخلفيات الاجتماعية والثقافية التي تربى عليها ترامب فهو رجل أعمال نشأ في عالم تهيمن عليه القوة الذكورية والنزعة الاستعراضية حيث تتحول المرأة إلى صورة أو زخرفة أو أداة تأثير ومع دخوله السياسة ظل هذا الإرث ملازمًا له بل ازداد حضورًا بفعل ميوله الطبيعية نحو العناد والتحدي والهجوم على كل من ينتقده والنتيجة أن ترامب بات يقدم نموذجاً سياسياً هجيناً يجمع بين الفوقية الذكورية والإعلام الشعبوي ويعيد تشكيل صورة الرئاسة الأمريكية بطريقة غير مسبوقة
إن قراءة هذا السلوك في سياق أوسع تكشف أن ترامب لا يرى المرأة شريكًا في صناعة القرار بل كائنًا قابلًا للاستغلال الإعلامي. في كل مرة يجد فيها أزمة، يفتح جبهة مع امرأة صحفية كانت أو سياسية ليحوّل الصراع إلى مواجهة شخصية تشغل الإعلام الأمريكي وتبعد الأنظار عن ملفات أهم مثل الاقتصاد والسياسة الخارجية وهكذا يصبح الغزل وسيلة لصناعة حالة استعراضية وتصبح الإهانة أداة لترويع الخصوم في ممارسة أقرب إلى المسرح السياسي منها إلى المسؤولية وهذا يعكس أزمة عميقة في الحياة السياسية الأمريكية نفسها إذ يكشف الانقسام الاجتماعي الحاد الذي يسمح لخطاب كهذا بالبقاء والتوسع فنجاح ترامب سياسيًا رغم تاريخه الحافل بالإساءات اللفظية والجنسية ويعبر عن تحولات ثقافية تتجاوز شخصه وتدل على أن جزءًا من المجتمع الأمريكي بات مستعداً لتبرير أي سلوك إذا كان يخدم معركته السياسية ضد خصومه وهذا ما يجعل الترامبية حالة اجتماعية لا مجرد ظاهرة انتخابية
في النهاية إن حديث ترامب الغزلي عن كارولاين ليفيت ليس مجرد زلة عابرة بل مؤشر جديد على انحدار الخطاب السياسي في أكبر دولة في العالم وهو يطرح سؤالاً مؤلمًا يجب أن يواجهه الأمريكيون قبل غيرهم هل يريدون رئيساً منشغلاً بشفاه المتحدثة الرسمية وملامحها أم قائداً منشغلاً بمستقبل البلاد إن العبرة التي يقدمها هذا المشهد ليست في كلمات ترامب وحدها بل في المجتمع الذي قد يسمح بعودة هذا الأسلوب إلى البيت الأبيض مرة أخرى مع رئيس قادم
وإن القضية لا تتعلق بكارولين ليفيت وحدها ولا بإلهان عمر ولا بنانسي بيلوسي وغيرهم بل بما يعنيه أن يقوم رجل في موقع قوة بإعادة تعريف صورة المرأة في السياسة عبر لغة لا تختلف كثيرًا عن لغة المراهقين والدرس الذي يخرج به القارئ هو أن الخطاب السياسي ليس مجرد كلمات تُقال بل هو جزء من تشكيل الوعي والاحترام والقيم العامة وإذا كان ترامب قد اعتقد أن الغزل أو التحقير مجرد أدوات خطابية فإن أثرها الاجتماعي والسياسي أكبر بكثير وقد حان وقت التعامل معها بوصفها تحذيرًا لا مجرد حادث عابر
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

