كيف حوّل محمود عباس دماء الشهداء ومعاناة الأسرى وآلام الجرحى إلى ملف مالي قابل للشطب ؟

مهدي مبارك عبدالله
لم يكن القرار الذي اتخذه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوقف رواتب الأسرى والجرحى وعائلات الشهداء مجرد إجراء إداري عابر ولا تفصيلاً تقنياً يمكن تمريره تحت لافتة الإصلاح والترشيد المالي أو إعادة الهيكلة المؤسسي بل كان لحظة كاشفة لانقلاب عميق في فلسفة السلطة تجاه جوهر القضية الفلسطينية نفسها سيما وانه جاء في لحظة تاريخية يتعرض فيها الشعب الفلسطيني لأوسع وأعنف هجمة صهيونية منظمة تتكامل فيها الإبادة الجماعية في غزة مع الاقتحامات والتجريف والاعتقالات في الضفة الغربية
القرار بكل تفاصيله شكل طعنة نجلاء لواحدة من أقدس ركائز الوعي الوطني الفلسطيني والمتمثلة بمكانة الأسير والجرحى والشهداء بوصفهم عناوين كبيرة وهامة للتضحية والفداء لا عبئاً مالياً يتوجب التخلص منه ولا هو حالة اجتماعية قابلة للتقييم والفرز ومن يدفع ثمن المواجهة مع الاحتلال يستحق الحماية والتكريم لا العقاب والإذلال والاحسان في وقت بالغ الحساسية لم يجد فيه رأس السلطة ما يقدمه سوى التنكر لبطولات وتضحيات من تبقّى من الرموز الشريفة للثورة والنضال
على مدار عقود طويلة لم تكن مخصصات الأسرى يوماً مسألة رواتب بالمعنى الوظيفي ولم تُقدم بوصفها إحساناً أو منّة من سلطة او من نظام سياسي بل كانت تعبيراً رمزياً ومادياً عن عقد وطني غير مكتوب يعترف بشرف واباء بأن من يذهب إلى السجن دفاعاً عن شعبه لا يُترك وحيداً وأن عائلته لا تُعاقَب مرتين الاولى بالغياب والثانية بالجوع وهذا المعنى هو ما جرى تفريغه بالكامل من محتواه وقيمته حين قرر محمود عباس تحويل هذا الحق إلى مجرد مساعدة اجتماعية مشروطة تُمنح أو تُمنع بناءً على استمارة بحث اجتماعي وكأن سنوات الأسر أو الإعاقة الدائمة أو الشهادة لم تعد تحمل أي قيمة سياسية أو أخلاقية لدى دوائر واجهزة السلطة الفلسطينية
الخطورة الكامنة في القرار لا تكمن فقط في مسألة وقف الصرف بل في إعادة تعريف الأسير نفسه في الخطاب الرسمي للسلطة حيث لم يعد الأسير وفق هذا القرار مناضلاً له وضعه الاعتباري الخاص بل أصبح حالة فقر متعددة الأبعاد تخضع لتقييم موظف وقد تُرفض معاملته لأنه يمتلك ثلاجة أو لأن أحد أبنائه يعمل أو لأن العائلة لا تنطبق عليها معايير الاحتياج التي صُممت أصلاً للتعامل مع الفقر الناتج عن ظروف اجتماعية طبيعية لا عن فرضيات احتلال عسكري دموي وهنا تحديدا وبهذه الصورةً تحول الحق الطبيعي إلى مسارات إذلال ومهانة وصدقة كما تحول الوفاء الوطني إلى معاملة بيروقراطية باردة بلا أي احساس ضميري او اخلاقي او وطني
إحالة عباس ملف الأسرى إلى مؤسسة ” تمكين ” لم يكن تفصيلاً تقنياً بحتا بل رسالة سياسية واضحة عنوانها فصل قضية الأسرى عن بعدها النضالي ودمجها قسراً في منظومة الحماية الاجتماعية التي وضعت أصلاً لإرضاء المانحين الدوليين لا لصيانة الكرامة الوطنية خاصة وان هذه المؤسسة أُنشئت لمكافحة الفقر لا لإدارة ملف من أكثر الملفات حساسية واهمية في التاريخ الفلسطيني كما ان وجودها خارج البنية التقليدية لمنظمة التحرير وهيئة شؤون الأسرى لم يكن صدفة بل خياراً مقصوداً لتجريد القضية الفلسطينية من بعدها السياسي وإعادة تسويقها بلغة تكنوقراطية معصرنة ومقبولة إسرائيلياً وامريكيا ودولياً
السؤال الجوهري في هذا الامر من فرض هذا القرار على محمود عباس والسلطة والإجابة لم تعد خافية امام تصاعد الضغوط الإسرائيلية والأميركية غير الجديدة لكنها اليوم أكثر وقاحة واصرار وتنظيماً منذ إقرار ( قانون تايلور فورس ) الأميركي وهو ( تشريع أمريكي أصدره الكونغرس عام 2018 يهدف إلى وقف المساعدات الاقتصادية الأمريكية للسلطة الفلسطينية ما لم توقف دفع رواتب للأسرى وعائلات الشهداء المتورطين في أعمال عنف ضد إسرائيليين وأمريكيين وقد سمي بذلك نسبة إلى جندي أمريكي قتل في إسرائيل ) من تلك اللحظة بدأت السلطة الفلسطينية تُبتز مالياً بشكل علني وتُخير بين دفع رواتب الأسرى أو استلام أموال المقاصة والمساعدات الدولية والامر الجديد في قرار عباس أنه لم يعد يواجه او يرفض هذا الابتزاز بل بات يتبنّاه ويذهب أبعد مما طلبه الاحتلال محاولاً تقديم شهادة حسن سلوك سياسية تقول للعالم إن السلطة لم تعد تكافئ من يقاوم ولم تعد ترى في الأسرى رمزاً وطنياً عظيما بل عبئ ثقيل يجب التخلص منه في اسرع وقت
المفارقة الأكثر فجاجة أن هذا الرضوخ المشين لم يحقق أي من وعود عباس المزعومة ولم تُفرج إسرائيل بموجبه عن أموال المقاصة ولم تخفف حصارها المالي ولم تمنح السلطة أي مقابل سياسي أو اقتصادي يُذكر ما يعني أن القرار لم يكن فقط خيانة معنوية مبيتة بل فشلاً سياسياً ذريعاً دفعت ثمنه آلاف العائلات التي وجدت نفسها فجأة بلا مصدر دخل وبلا اعتراف رسمي بتضحيات أبنائها في وقت تتضاعف فيه تكاليف الحياة تحت قهر وفسوة الاحتلال
ما فعله عباس خطوة متقدمة في سلسلة طويلة لا يمكن فصلها عن مسار محاولات تدجين الوعي الفلسطيني وتجفيف منابع المقاومة وليس فقط بالسلاح بل بالرمز والمعنى فعندما تُسحب الحماية الاجتماعية عن عائلة الأسير وتُربط بمدى فقرها فأنها تبعث رسالة خطيرة إلى المجتمع كله مفادها بان من يختار طريق المقاومة عليه أن يتحمل وحده العواقب وعائلته لن تكون محمية وليس لها سبيل الا التسول وهذه ليست سياسة مالية او ادارية بل فكرة صهيونية لهندسة الوعي من اجل كسر العلاقة التاريخية المقدسة بين الشعب وخياراته النضالية ضد الاحتلال
الغريب جدا أن القرار جاء في لحظة كان يفترض فيها تعزيز الصمود والتماسك الداخلي وقواعد الوحدة الوطنية لا تقويضها خاصة وان الشعب الفلسطيني اليوم لا يواجه احتلالاً تقليدياً بل مشروع اقتلاع صهيوني شامل ومعركة وجود مفتوحة وفي مثل هذه اللحظات تلجأ حركات التحرر الوطنية في العالم إلى رفع مكانة رموزها النضالية لا إهانتها وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية لعائلات المقاومين لا إلى إذلالهم باسم الإصلاح والتحديث والحوكمة
المشهد المؤلم الذي يمكن تصوره في ثنايا هذا القرار ليس فقط في قطع المال بل في الغاء المعنى والمضمون الرمزي والاعتباري للمقاومين والمناضلين ما يعزز الانطباع بأن سنوات الزنازين والتعذيب والأحكام المؤبدة لم تكن فعلاً وطنياً مقاوما بل مجرد حادثة فقر قابلة للتقييم والمساومة وبهذا المنطق تحوّل حق الأسرى من التزام وطني ثابت وغير قابل للنقاش إلى صدقة مشروطة كما تحول من اعتراف بالتضحية والمعاناة إلى استمارة مهينة تُفتح وتُغلق وفق مزاج موظف عام ومعايير هامشية لا ترى في الأسير سوى رقم اعتيادي يتكرر مع كل حالة مقاومة او مواجهة للاحتلال
إن تحويل حقوق الأسرى والجرحى إلى جميلة ومنّة وربطها باستبيانات وإجراءات مهينة لم يكن ضرورة وطنية ولا حتمية مالية ولا خياراً بلا بدائل بل كان قراراً سياسياً صرفاً اتُخذ بإرادة فردية وفي غياب أي تفويض شعبي أو مؤسسي وفي هذا تعارض صارخ مع القانون الأساسي الفلسطيني ومع روح الحركة الوطنية التي قامت أصلاً على تقديس التضحية لا معاقبتها وازدرائها
مخصصات ورواتب الشهداء و الأسرى والجرحى لم تكن يوماً عبئاً على خزينة السلطة ولا هي رشوة سياسية ولا اسلوب لتشجيع العنف كما يردد الخطاب الإسرائيلي بل كانت وستبقى تعبيراً مباشراً عن حقيقة بسيطة مفادها أن الاحتلال هو المسؤول عن الاعتقال والسجن وأن من يقاومه يجب ان لا يُترك ليُعاقَب هو وعائلته لكن على ما يبدو ان محمود عباس بقراره هذا اقتنع بالرواية الإسرائيلية كاملة وتبناها بل وذهب أبعد منها حين وافق ضمناً على تجريم الأسرى وتجريدهم من نضالهم وشرعيتهم وتحويل عائلاتهم إلى فقراء يطالهم الاذلال على أبواب ما يسمى بدائرة الحماية الاجتماعية بصورتها ووظيفتها الجديدة التي تتوافق مع مطلب ورؤية الاحتلال والداعمين له
بالغوص في العمق نجد ان جوهر هذا القرار لا يعكس ضرورة وطنية ولا مصلحة عامة بل يؤكد على وجود أزمة شرعية عميقة لدى رئيس سلطة لا يرى في الأسير المقاوم رمزاً اصيلا في الدفاع عن الوطن ولا في الجريح شاهداً على الجريمة ولا في عائلة الشهيد خطاً أحمر مقدس وهذا ما سوف ُيسقط ويدمر آخر ما تبقى من ثقة واحترام بين القيادة وشعبها
كما ان إن تحويل مخصصات الأسرى إلى مساعدات اجتماعية مشروطة ليس تفصيلاً تقنياً بل إهانة سياسية وأخلاقية خاصة وان الأسرى لم يصبحوا أسرى لأنهم فقراء ومعوزين بل لأنهم واجهوا احتلال والجرحى لم يُصابوا في حوادث عرضية بل برصاص جيش مجرم وعائلات الشهداء لم تفقد أبناءها بسبب سوء إدارة حياتية بل بسبب مشروع استعماري دموي وان تجاهل السلطة لهذه الحقيقة يزيد من مشاعر القسوة والاهانة خصوصا وانها جاءت مغلّفة بلغة بيروقراطية جامدة وتحت مبررات وجود أزمة موارد رغم ان المشكلة بكاملها تتعلق بشرعية القيادة الصورية التي تعجز عن حماية أسرى شعبها وصيانة كرامة جرحاه ولا تقف مع عائلات شهدائه حيث فقدت الحد الأدنى من الأساس الأخلاقي الذي يسمح لها الحديث باسم الشعب
المؤكد لنا عمليا إن المساس بحقوق الشهداء والأسرى والجرحى ليس مجرد خطأ سياسي غير مقصود بل كسر فعلي لميزان القيم والمبادئ والاعراف التي قام عليها المشروع الوطني الفلسطيني برمته وفي لحظة تاريخية كهذه يصبح التراجع عن هذا القرار ليس خياراً تحسينياً بل ضرورة أخلاقية ووطنية واجبة لأن الشعوب التي تُعاقِب تضحيات ابطالها لا تخسر معركتها فقط بل تفقد نفسها وتاريخها ووجودها
ربما كان المنتظر من أي قيادة تدّعي المسؤولية والحرص على ارضها وشعبها أن تحصّن جبهتها الداخلية وأن تعلي وتصون مكانة من دفعوا الثمن الأغلى من ارواحهم وحرياتهم واجسادهم لا أن تغتالهم باستخدام لغة الإصلاح لتمرير عقوبة جماعية بحق أكثر الفئات ضعفا وتضحية وكأن الأسر والجرح والشهادة اصبحت أخطاء تستوجب اعادة تصويبها وعبئ يجب التخلص منه لإرضاء الخارج ولو باثر رجعي
في الخاتمة : يمكن القول إن هذا القرار لم يكن فقط خطأً في التوقيت بل خطأً ايضا في الرؤية وخطيئة أكبر في المعنى وليس هنالك اي ضرورة وطنية ولا أخلاقية ولا حتى عملية تبرر المساس بحقوق الأسرى والجرحى في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الشعب الفلسطيني وما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس مزيداً من الرضوخ ولا إعادة تعريف للضحية بوصفها عبئاً بل هم احوج الى قيادة تعيد الاعتبار للكرامة الوطنية وتفهم أن الحقوق التي تُنزع تحت وطأة الضغوط لا تحمي سلطة ولا تبني دولة بل تسرع بالانفصال الخطير والتمرد العاجل بين الشعب ومن يدّعي تمثيله
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

