لبنان بين القرار والقدرة : هل يستطيع الجيش وحده صدّ التوغلات الإسرائيلية ؟

مهدي مبارك عبدالله
في حادث جديد يعيد التذكير ويثبت بأن وقف إطلاق النار في لبنان لا يزال حبراً على ورق دون أي التزام او احترام حيث توغلت فجر الخميس 30 10 2025 قوة إسرائيلية داخل بلدة بليدا الحدودية وتسللت إلى مبنى البلدية وأطلقت النار بشكل فوري على العامل إبراهيم سلامة أثناء نومه ما أدى إلى استشهاده في جريمة جديدة وموثقة تشكل خرقاً فاضحاً للسيادة اللبنانية وللاتفاق الموقّع في نوفمبر الماضي وقد جاءت الحادثة بعد ساعات فقط من اجتماع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية بحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس ما يسلط الضوء على التناقض العملي بين الوجود الدبلوماسي الأميركي وغياب أي ردع للعدوان الإسرائيلي اليومي على لبنان
الرئيس اللبناني جوزاف عون لم يتردد هذه المرة في اتخاذ موقف غير مسبوق حيث أصدر أمراً مباشراً إلى قائد الجيش بالتصدي المباشر لأي توغل عسكري إسرائيلي دفاعاً عن الأراضي اللبنانية وسلامة المواطنين في خطوة فاجأت الأوساط السياسية والإعلامية لأنها الأولى من نوعها منذ اتفاق الهدنة وقد أعادت إلى الواجهة سؤالاً مركزياً ظل مؤجلاً طويلاً هل يملك الجيش اللبناني فعلاً القدرة والامكانات على منع التوغلات الإسرائيلية من دون دعم المقاومة المتمثلة في حزب الله
واقع الحال يشير إلى أن الجيش اللبناني رغم احترافيته العالية وانضباطه الا انه يعاني من نقص مزمن في الاليات القتالية والعتاد والتسليح بالإضافة الى عدة قيود سياسية ودبلوماسية تحد من حريته في الرد وهو يعتمد أساساً على دعم خارجي مشروط لا يتيح له خوض مواجهة ميدانية متكافئة مع جيش الاحتلال المدجج بأحدث الأسلحة والتقنيات الجوية والإلكترونية لذلك وجد الكثير من المراقبين إن القرار الرئاسي يحمل في طياته بعداً رمزياً وسيادياً أكثر من كونه إشارة إلى حدوث تبدل جذري في موازين القوى على الارض
التوقيت الاسرائيلي للتوغل واغتيال موظف مدني داخل مؤسسة رسمية بعد يوم واحد من لقاء أورتاغوس بالمسؤولين اللبنانيين بحد ذاته ليس بريئاً ويوحي برسالة سياسية مقصودة أرادت إسرائيل من خلالها اختبار حدود رد الفعل اللبناني وجر الجيش إلى اشتباك مباشر يستخدم لاحقاً ذريعة لتوسيع العدوان أو لتبرير مطالبات دولية متكررة بضرورة سحب سلاح المقاومة
في المقابل تعامل حزب الله مع الموقف الجديد ببراغماتية لافتة حيث ثمن الحزب دعوة الرئيس عون واعتبرها موقفاً وطنياً مسؤولاً لكنه شدد في الوقت ذاته على أن المقاومة جاهزة للدفاع عن لبنان وليس لشن معركة كما اكد الحزب انه لا يسعى إلى فتح جبهة جديدة لكنه لن يسمح للعدو الاسرائيلي بأن يمر دون رد إذا فرضت عليه المواجهة وهذا التوازن الدقيق يعكس استراتيجية الحزب في المرحلة الحالية بدعم الدولة في واجبها الدفاعي من دون التورط في حرب استنزاف قد تستفيد منها إسرائيل سياسياً وإقليمياً في ظل الاستعداء الدولي المنظم
الجيش اللبناني بدوره يجد نفسه اليوم أمام معادلة شديدة الحساسية فهو مطالب بالدفاع عن الحدود وردع الاعتداءات الاسرائيلية لكن من دون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تجر البلاد إلى حرب شاملة وهذه المعادلة تحتاج إلى تحقيق توازن دقيق بين الموقف الميداني والغطاء السياسي والدبلوماسي خصوصا وان التصدي لأي توغل محدود ممكن ضمن الإمكانيات المتاحة لكن خوض مواجهة مفتوحة دون دعم المقاومة وسلاحها أو أي مظلة دولية فاعلة سيؤدي إلى نتائج كارثية على لبنان ومؤسساته وبناه التحتية
الضغوط الأميركية المتواصلة على لبنان ليست سوى وجه آخر لمحاولة فرض معادلة أمنية جديدة في الجنوب تنهي فعلياً الدور الردعي للمقاومة وتحول الجيش اللبناني إلى قوة مراقبة محدودة الصلاحيات لكن القرار الأخير للرئيس أعاد الاعتبار لسيادة الدولة ولو على الورق على الأقل ووجه رسالة مفادها أن لبنان الرسمي لم يعد قادراً على تحمل صمت دولي وامريكي طويل أمام الخروقات اليومية التي تهدد أمنه واستقراره
في المقابل لا يمكن النظر إلى قرار الرئيس اللبناني بمعزل عن التحولات الإقليمية العميقة التي تشهدها المنطقة إذ إن لبنان اليوم يقف على خط الزلازل السياسية والأمنية الممتدة من غزة إلى الجنوب السوري مروراً بالجولان المحتل وهذا الواقع يجعل من أي قرار عسكري لبناني مهما كان محدوداً جزءاً من مشهد أوسع تتداخل فيه حسابات القوى الكبرى والإقليمية فإسرائيل تسعى إلى جر لبنان نحو اختبار ميداني يكشف مدى تماسك جبهته الداخلية فيما تحاول واشنطن الإبقاء على الوضع الحالي دون حسم يسمح لها بإدارة التوتر لا إنهائه بما يخدم أجندتها في التفاوض مع طهران وحلفائها
في هذا السياق يبرز بعد آخر يتعلق بموقع الجيش اللبناني في معادلة الردع الوطنية فبينما يشكل حزب الله القوة الأكثر حضوراً وتأثيراً في ميزان القوى على الحدود يبقى الجيش هو الإطار السيادي الذي يمنح الغطاء الشرعي لأي مواجهة مع إسرائيل وإذا ما تمكن الطرفان من تعزيز التنسيق الميداني دون إعلان رسمي فقد يولد ذلك صيغة دفاعية متقدمة تضمن الردع وتمنع الانزلاق إلى حرب شاملة هذه الصيغة إن نضجت ستكون بمثابة إعادة تعريف لدور الدولة في الأمن القومي وتؤسس لمرحلة جديدة من الشراكة بين المؤسسة العسكرية والمقاومة ضمن رؤية وطنية جامعة
كما أن الداخل اللبناني المثقل بالأزمات الاقتصادية والشلل السياسي يحتاج اليوم إلى استثمار مثل هذه اللحظة الوطنية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة فالتصدي للعدوان لا يجب أن يبقى فعلاً عسكرياً فحسب بل ينبغي أن يتحول إلى مشروع وطني شامل يوحد اللبنانيين حول فكرة الكرامة والسيادة ويحرك عجلة الإصلاح من منطلق أن قوة الدولة تبدأ من وحدة صفها الداخلي وليس فقط من عدد دباباتها أو طائراتها
يبقى السؤال المحوري هل يستطيع الجيش اللبناني وحده أن يمنع التوغلات الإسرائيلية الجواب الواقعي أن قدرته محدودة في مواجهة آلة عسكرية متفوقة لكن القيمة السياسية لقرار الرئيس تكمن في إعادة إحياء مبدأ الدفاع الوطني المشترك وفيه ايضا رسالة داخلية مفادها ان لبنان لا يمكن أن يصمد إلا من خلال تماسك جبهته الداخلية وتكامل مؤسساته الرسمية مع مقاومته الشعبية وفق المعادلة التي ولدت من رحم التجربة المريرة منذ عام 2006 وما بعدها أما استمرار الرهان على الحياد الأميركي أو على التزام إسرائيل بالاتفاقات فهو رهان على سراب أثبتت الأيام بطلانه
ما يجري اليوم في الجنوب ليس مجرد خرق عابر بل اختبار خطير لمدى صلابة الدولة اللبنانية وقدرتها على التمسك بسيادتها في ظل عجز المجتمع الدولي عن فرض أي توازن ردع على إسرائيل لذلك فإن الطريق إلى حماية لبنان لا يمر فقط عبر الأوامر العسكرية بل ايضا عبر وحدة القرار السياسي وتنسيق الموقف بين الجيش والمقاومة والسلطة التنفيذية لتفادي أن يتحول الجنوب مجدداً إلى ساحة حرب مفتوحة يدفع ثمنها الشعب اللبناني بأمنه ولقمة عيشه ومستقبله ويثبت أن لبنان لا يزال قادراً على الدفاع عن نفسه رغم كل الضغوط والتحديات
خاتمة : إن قرار الرئيس اللبناني الاخير ليس مجرد توجيه عسكري بل إعلان مبدئي بأن لبنان لن يكون ساحة مباحة للاعتداءات وأن زمن الصمت قد انتهى فالمعادلة الجديدة التي تتشكل اليوم عنوانها أن السيادة لا تُستعاد بالشعارات بل بالفعل وأن الردع لا يتحقق إلا بالتكامل بين الجيش والمقاومة والإرادة السياسية الموحدة وما لم تدرك إسرائيل أن لبنان الصغير في الجغرافيا الكبير في إرادة الصمود قادر على الدفاع عن أرضه فستظل تتوهم أن بوسعها فرض أمنها على حساب الآخرين لكن التجارب علمت الجميع أن لبنان لا يركع إلا لله ولا يفرط بذرة من ترابه
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com


