مفاهيم الحق والعدالة في التطبيق القضائي


د.نهلا عبدالقادر المومني

بقلم/  د.نهلا عبدالقادر المومني

العلاقة بين القانون والأخلاق، شكلت عبر التاريخ القضية الأكثر جدلًا عند الحديث حول مفهوم القانون. وقد تمخض عن هذا الخلاف التاريخي موقفين؛ الأول الموقف الذي عبرعنه المذهب الوضعي الذي تبنى فرضية الإنفصال بين القانون والأخلاق، هذه الفرضية التي أشارت إلى أنّ القانون يجب أن يُعرف بصورة لا تتضمن في محتواه عناصر أخلاقية، وتستلزم فرضية الإنفصال هذه عدم وجود ارتباط حكمي بين القانون والأخلاق، وبين ما يفرضه القانون وبين ما تتطلبه العدالة، لذلك فإن المفهوم القانوني الوضعي ينطوي على عنصرين هما عنصر الشرعية الشكلية، وعنصر التأثير الاجتماعي أو الفاعلية، فما هو قانون يتحدد فقط بما يسن أي بما يحوز الشرعية الشكلية وبما يكون فعالا، أيّ يحوز التأثير الاجتماعي، بالتالي فليس مهما أن يكون مضمونه صحيحا أم باطلا.

في المقابل، تتبنى النظريات غير الوضعية فرضية الارتباط بين الأخلاق والقانون، هذه الفرضية تقضي بأن مفهوم القانون يجب أن يتحدد بحيث يحتوي في مضمونه عناصر أخلاقية وأن عنصري الشكلية والتأثير الاجتماعي يجب ان يستمدان من الواقع عناصر أخلاقية وهو ما يشير له روبرت ألكسي في كتابه فلسفة القانون.

هذا الخلاف لم يبق أسير النظريات القانونية وإنما انتقل ليجد مكانًا له في التطبيقات القضائية المعاصرة، التي انتصرت دومًا لفكرة العدالة والحق، ويعدّ ما جاء في قرار المحكمة الدستورية الألمانية العليا عام 1968 حول تجريد أحد الأفراد من الجنسية الألمانية سندًا للقانون الألماني أنذاك، من أهم القرارات التي أوقفت سريان نص قانوني لمخالفته المبادئ الجوهرية للعدالة، حيث أشارت المحكمة في معرض تعليلها لهذا القرار”….لا القانون والعدالة تحت تصرف المشرع؛ فالتصور الذي يقضي بأن المشرع الدستوري يستطيع أن ينظم كل شيء وفقًا لإرادته تبدو كأنها ارتداد إلى عقلية المذهب الوضعي التقديري الحرّ والذي هجر منذ زمن بعيد، سواء في علم القانون أو على صعيد الواقع، فمن عظات وعبر زمن النظام القومي الاجتماعي في ألمانيا (الحكم النازي) أنّ المشرع يمكن ان يضع قوانين جائرة أيضا.

وعليه فقد وافقت المحكمة الدستورية العليا على إمكانية تجريد أحكام النصوص القانونية موضوع القضية من السريان لأنها تنافي المبادئ الجوهرية للعدالة بشكل صارخ؛ بحيث أن القاضي الذي يريد تطبيقها أو الإقرار بآثارها القانونية سوف يقضي بالباطل بدلًا من ان يحق الحق….فاللائحة محل التطبيق تنافي مبادئ العدالة الأساسية، وقد بلغت منافاتها للعدالة حدّا لا يطاق ، بحيث يجب أن تعتبر معدومة من أساسها …ولا يمكن التسليم بأن اللائحة القانونية قد اكتسبت قوة النفاذ بإعتبار أنّه جرى العمل بموجبها لبعض السنين أو أن بعض الذين حرموا من الجنسية قبلوا من جهتهم بالتدابير المتخذة ؛ ذلك لأن النص القانونيّ الظالم الذي يخرق المبادئ الأساسية للحق لا يصبح قانونًا لمجرد أنّن طبق أو اتبع..”.

في الواقع، هذا التطبيق القضائي للنصوص القانونية وهذا الفهم العميق الضارب في الجذور لمفاهيم الحق والعدالة وعدم جواز الركون لجور وظلم النص القانونيّ هو ما يؤدي إلى بناء دولة الحق في أيّ مجتمع كان، فالبحث عن الحق والعدالة هو الذي نهض عبر التاريخ بالحضارات وجعل بعضها راسخ في كينونة الحياة ومسار التقدم والرقي، وهو الذي يجعل بالنتيجة الأفراد الشريك الأساسي في الرضوخ لحكم القانون والقبول به والدفاع عنه، لشعور متأصل بأن التشريعات جاءت حماية للحقوق والحريات وأن سبل الإنصاف هي الملاذ الآمن لمن تنتهك حقوقه بغض النظر عن أيّ اعتبارات أخرى.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.