ممارسة الدبلوماسية الحديثة من خارج القاعات المغلقة :


محامي محمد صدقي الغرايبة

لم تعد الدبلوماسية الحديثة حبيسة القاعات الرسمية، ولا مقتصرة على البيانات البروتوكولية والاجتماعات المغلقة، بل باتت في تجارب معينة أقرب إلى الفضاء الاجتماعي المفتوح، حيث يلتقي العمل الدبلوماسي بالناس مباشرة، لا عبر الوسطاء من خلال التنقل الحر وغير المقيد.

حديثا انتهج بعض السفراء نمطًا غير مألوف في الممارسة الدبلوماسية، قوامه الانخراط المباشر في المجتمعات، والتنقل الشخصي بين الدوائر والوزارات وبين القرى والبوادي والمحافظات، والمشاركة في مناسبات الناس الاجتماعية من أفراح وأتراح، بعيدًا عن الأطر الرسمية الصارمة التي اعتادها العرف الدبلوماسي التقليدي.

هذا السلوك لا يمكن قراءته بوصفه مجرد نشاط اجتماعي عابر، بل هو تعبير عن تحوّل أعمق في فهم الدور الدبلوماسي ذاته.

فالدبلوماسية، في جوهرها، ليست فقط إدارة للعلاقات بين الحكومات، بل هي أيضًا بناء جسور ثقة مع المجتمعات، وفهمٌ للسياقات الثقافية والاجتماعية التي تتحرك فيها السياسة. ومن هذا المنظور، فإن نزول الدبلوماسي إلى الميدان، واحتكاكه المباشر بالناس، يمنحه قدرة أكبر على قراءة المزاج العام، وفهم التحديات الحقيقية التي تواجه المجتمعات المحلية، بعيدًا عن التقارير الرسمية المصقولة أو الخطابات النخبوية.

كما أن هذا النهج يعكس إدراكًا متقدمًا لقيمة “القوة الناعمة”، حيث تتحول البساطة في التواصل، واحترام العادات المحلية، والمشاركة الوجدانية، إلى أدوات تأثير لا تقل فاعلية عن الخطاب السياسي أو الضغط الدبلوماسي. وهو ما يجعل هذا السلوك على غير ما ألفه العرف الدبلوماسي ربما هي نقطة تحول ذات حدين في العمل الدبلوماسي المعاصر، إذا ما أُحسن توظيفه ضمن حدود الاحترام المتبادل واحترام السيادة او العكس.

ومع ذلك، فإن هذه الممارسة تفتح الباب أيضًا أمام نقاش مشروع حول حدود الدور الدبلوماسي، والفارق بين الانخراط الإيجابي والتأثير غير المباشر، وهو نقاش صحي وضروري في المجتمعات الواعية. فالنضج السياسي لا يعني رفض التواصل، بل يعني قراءته بوعي، والتعامل معه بثقة تستند إلى قوة الدولة ومؤسساتها ومجتمعها.

في المحصلة يمكنزالقول بأن هذه التجربة من لدن بعض الدبلوماسيين قد تكون مثالًا لأسلوب دبلوماسي جديد، أكثر قربًا من الناس، وأقل تكلّفًا، يعكس تحولات أوسع في مفهوم الدبلوماسية العالمية. وهي تجربة، بغضّ النظر عن الموقف منها، تستحق أن تُدرس لا بوصفها خروجًا على الأعراف، بل بوصفها مؤشرًا على أن السياسة في عالم اليوم لم تعد تُدار من العواصم ومن خلف الطاولات والمكاتب المغلقة بل من بين الناس ومن خلالهم ايضا .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.