ممارسة المسؤولية من موقع أدنى رؤية قيادية تستشرف الواقع وتلامس احتياجات الناس


محامي محمد صدقي الغرايبة

=

في عالم تتعاظم فيه التحديات وتتسارع فيه حاجات المجتمع، لم يعد كافيًا أن يمارس المسؤول مهامه من برجٍ إداريٍّ عالٍ أو خلف مكتب بعيد عن نبض الشارع. هنا تتجلى قيمة “ممارسة المسؤولية من موقع أدنى”، حيث ينزل المسؤول بمكانته وخبرته إلى مستويات وظيفية أدنى، لا بحثًا عن سلطة، بل بحثًا عن فهم أعمق للواقع، وتلمّسًا أدق لحاجات الناس، وإدراكًا أصدق لطبيعة العمل اليومي الذي يُعنى بخدمة المواطن.

هذه الممارسة ليست انتقاصًا من الموقع الوظيفي الرفيع، بل على العكس، هي تجسيد لأرقى أشكال القيادة؛ فالمسؤول الذي يقترب من الأرض، يرى ما لا يُرى من المكاتب، ويسمع ما لا يصل عبر التقارير الرسمية، فيكتشف تفاصيل يغفلها التسلسل الإداري وأحيانًا تتوه في دهاليزه.

إن نموذج المحافظ الذي يمارس مهام المتصرّف – كما يحدث في بعض الدول – ليس مجرد حركة بروتوكولية، بل هو خطوة واعية تعكس نضجًا في قيادة المؤسسات. فعندما يتابع المحافظ شكاوى الناس مباشرة، ويقف على احتياجات القرى والألوية، ويختبر بنفسه الإجراءات والممارسات اليومية، فإنه يكتسب معرفة واقعية تعزّز قراراته وتجعله أكثر قدرة على التوجيه وإصلاح الخلل. وهو بذلك يرسل رسالة ضمنية لكل العاملين تحثّهم على الالتزام، وتعيد ضبط إيقاع العمل الإداري على أساس من الواقعية والشفافية.

وممارسة المسؤولية من موقع أدنى لا تتعلق فقط بالوظائف الحكومية؛ إنها منهج قيادي عام يمكن تطبيقه في المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء. فالقائد الذي يجلس يومًا خلف مكتب موظف استقبال، أو يرافق فريق الميدان، أو يعمل مع الفنيين في الورشات، سيخرج بمنظور مختلف، ويُتيح لنفسه فرصة التعرف إلى تحديات لم تكن لتصل إليه عبر التقارير وحدها. إنه بذلك يعيد ترميم الفجوة بين الإدارة العليا ومستوى التنفيذ، وينحت نموذجًا قياديًا قائمًا على الفهم، لا على الافتراضات.

كما تُسهم هذه الممارسة في تعزيز الثقة بين المواطن والمسؤول؛ فالناس لا يثقون كثيرًا بالقرارات التي تأتي من الأعلى إذا لم تكن مبنية على معرفة متصلة بالواقع. أما عندما يرون المسؤول بينهم، يسمعهم، ويرى بعينه ما يعانونه، فإن هذه الثقة تُزرع وتكبر، ويتولد شعور بأن الإدارة ليست بعيدة أو معزولة، بل هي جزء من حياتهم اليومية.

تبقى ممارسة المسؤولية من موقع أدنى أحد أهم أساليب القيادة الحديثة؛ فهي تجعل المسؤول أكثر إنسانية، وأكثر معرفة، وأكثر قدرة على اتخاذ القرار الصحيح. وهي كذلك تعيد الاعتبار لدور المؤسسات في خدمة المواطن، وتكرّس مفهوم القيادة التي تتعلم من الناس قبل أن تقودهم. إنها باختصار، ممارسة ترتقي بالمسؤول وبالمؤسسة، وتنعكس أثرًا طيبًا على المجتمع بأسره.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.