موسم الهجرة إلى الجنوب


د.حفظي حافظ اشتيه

=

ما جاءنا من الشمال الأوروبي، والغرب الأمريكي، إلا الشرّ، ولا جنينا منهما إلا التعب والقتل والتدمير والهوان والتقسيم وزرع الفرقة والحروب الداخلية ونهب الثروات وهدرها وتحطيم الاقتصاد وسلب الإرادة وقتل الشعور القومي وتفتيت التوحّد الديني واغتصاب فلسطين وتهاوي الأوطان…. إلخ

ماذا نعدّد من مظاهر أذاهم؟ وماذا ندع؟ إنهم ــ بتعاملهم معنا ــ يمثلون الشرّ المجسّد في هيئة بشر.

نشر “الطيّب صالح” الأديب السوداني الشهير، روايته العظيمة “موسم الهجرة إلى الشمال” سنة 1966م، ويمثّل بطل تلك الرواية العطب النفسي الذي أحدثه له ولنا الاستعمار، هاجر إلى الشمال، فسحرته حضارته، وغرق فيها حتى الذؤابة، وتجرعها حتى الثمالة، ثم لفظهذلك الشمال، فعاد أدراجه مسربلا بالانكسار ليعيش باقي عمره في قرية مغمورة قرب النيل، إلى أن تنتهي حياته نهاية غامضة غير مفهومة، تماما مثل علاقتنا مع هذا الغرب الماكر.

وآن الأوان أن نهاجر إلى الجنوب بدلا من الشمال، فقد دقّت جنوب إفريقيا الطبول لإيقاظنا، وأشعلت المشاعل لحريتنا، وفتحت مجلدات ظلم المستعمرين، وأعادت تصويب حروف كتابة التاريخ، وفتحت أحضانها لنصرة المظلومين المستضعفين في فلسطين، عندما استقوى عليهم جبروت المعتدين، ونادت من أقاصي الجنوب: نحن إخوانكم في الهمّ والألم ومرارة الظلم، وإن لم نكن إخوانا لكم في القومية أو الدين.

لا يشفق على المظلوم أو يرأف بحاله، أو يهبّ لنصرته ونجدته  كمَن عانى مثله، وذاق ومرارة الظلم قبله.

منذ حوالي أربعمائة عام تسلل الهولنديون الغزاة المستعمرون إلى جنوب إفريقيا خلال الرحلات الاستكشافية الأوروبية الاستعمارية الأولى لدنيا العالم القديم، واستقرّوا في الجزء الجنوبي المطل على المحيط الهندي والأطلسي، ومن هناك بدأت أسوأ تجارة عرفتها البشرية، وهي تجارة العبيد، فيساق الأفارقة إلى أوروبا ثم إلى أمريكا من بعد، ضمن ظروف يندى لها جبين الإنسانية منذ خُلق الإنسان.

 

 

ثم أطلّ الوجه الاستعماري البريطاني القبيح على المشهد مطلع القرن التاسع عشر، وبخاصة بعد اكتشاف مناجم الذهب والألماس، فوقع الصراع بين الغزاة السُّرَّاق على الساحل، فاندحر الهولنديون شمالا إلى الداخل، وهيمن الإنجليز على الجنوب بموقعه النادر على رأس الرجاء الصالح، المتحكم في المسار البحري التجاري الأعظم بين الشرق والغرب.

وبقيت البلاد ترزح تحت نير استعبادهم نحو قرنين من الزمان، ذاق فيها السكان الأصليون كل صنوف الإذلال والهوان، وتعالت صرخاتهم وتلاقت عبر المحيطات مع صرخات المظلومين مثلهم من الهنود الحمر في أمريكا، فالكأس واحدة، والظُّلام أشباه.

وتجلى الظلم حين تمّ سنّ قانون الفصل العنصري سنة 1948م، ليتحكم بضعة ملايين من البِيض المستعمرين بعشرات الملايين من سكان البلاد الأصليين الشرعيين، وطال ذلك على مدى يقرب من نصف قرن، فطغى الظلم وتجبر المستعمر، وانعدمت المساواة، ومُنع أهل البلاد الأصليون من الاختلاط بالصفوة العرقية الغربية المستعمرة الظالمة!!! فعُزلوا في أماكن السكن والعمل، وفي المدارس والمؤسسات والحدائق والمستشفيات، في الحافلات والقطارات والفنادق والمطاعم، في المسابح ودور السينما والمسارح، حتى في الكنائس، في الشوارع والطرقات، لا يُسمح لهم بالمرور إلا بتصاريح مخجلة تافهة متهافتة، ويحرم عليهم الدخول إلى أماكن البِيض إلا بهذه التصاريح ليعملوا ــ فقط ــ خُدَّاما لأسيادهم!!!، فقد حُظر عليهم أي عمل له شأن، أو أية مهنة ذات قيمة…. والويل، كل الويل، لمن يتجرأ منهم ويخالف أحد بنود هذا القانون الجائر، فالقتل بالمجان ودون محاكمة، والسجون مفتوحة الأبواب، والقمع يصدع القلوب ويصرع الأرواح، ولا لغة عند المستعمر إلا لغة البطش والإرهاب….

آااه، ما أشبه ما عاناه شعب جنوب إفريقيا بما يعانيه أهل فلسطين منذ ما يزيد عن قرن من الزمان: الوجوه المستعمرة البشعة ذاتها، والأساليب ذاتها، والمرارات ذاتها، والكؤوس ذاتها والسُّقاة هم أنفسهم.

ولذلك، لا غرابة أن تأتي النصرة لهذا الشعب المظلوم من جنوب إفريقيا، ليس بينها وبين فلسطين حدود أو معابر!!!، وتفصل بينهما حوالي سبعة آلاف من الكيلومترات، لا رابط قوميا أو جغرافيا أو عرقيا بين الشعبين، لكنها دروب الآلام الواحدة، وضروب العذابات المشتركة، وتاريخ المعاناة المتشابهة، وحرقة المرارة من صنائع المستعمرين هي التي جمعت الشعبين، وجعلت أقصى بقعة في جنوب قارة إفريقيا تحنو على فلسطين.

ليتنا نرنو إلى هذه الدولة العظيمة، ونقرأ عنها، ونتقرّب منها، ونشجع السياحة إليها، والاستثمار فيها، والإفادة من تجاربها الغنية الوفيرة الغزيرة.

هي دولة تضمّ أديانا شتى: المسيحية بمذاهبها المتعددة، وديانات آسيوية وهندية، ونسبة لا دينية، وفيها الإسلام الذي تغلغل إليها عبر مصر بوابة الفتح الإسلامي، فانتشر سلما وطوعا، وفي ذلك ردٌّ كافٍ على من يصم الإسلام بدين الفتح والإرهاب.

ويتسع دستورها ليعترف بإحدى عشرة لغة، وتحتضن أعراقا تكاد تستعصي على الحصر من بقايا المستعمرين الأوروبيين، والأمريكان، وممن قدم إليها واستقر فيها من الهند والصين والباكستان وإندونيسيا وماليزيا والبلاد العربية…. إلخ.

هي دولة فيها مئات الكنوز الأثرية التاريخية الباذخة، وطوائف هائلة من سحر الطبيعة البِكر، وهي ضالّة الفكر المعاصر المشغول الباحث عن الهدأة والعودة إلى إنسانية الإنسان.

ولعل أعظم ما فيها هي قصة الصمود الأسطوري لشعب عانى طويلا من ظلم المستعمر، ثم انتزع حريته التامّة وسيادته الكاملة على أرضه. وما زالت ذكرى الزعيم العظيم “نيلسون مانديلا” تهدي الحائرين الباحثين عن أبطال الحرية الخالدين، الذين رسموا بكفاحهم المرير دروب الشرف نحو تحرير الأوطان والإنسان.

شكرا جنوب إفريقيا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.