هل كانت السلطة الفلسطينية وراء القضبان لمنع البرغوثي من الحرية ؟

مهدي مبارك عبدالله
في قلب القضية الفلسطينية يبقى اسم القائد الفتحاوي مروان البرغوثي الأسير الفلسطيني الأبرز منذ أكثر من عقدين والذي اعتقل عام 2002 بتهمة توجيهه قتل أربعة إسرائيليين وراهب أرثوذكسي يوناني خلال الانتفاضة الثانية وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة وهو أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى وكان وما يزال رمزا للمقاومة ووحدة الصف الفلسطيني وقد أثار عدم الإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة جدلاً واسعاً حول دور السلطة الفلسطينية في الخفاء وماذا تخشى من عودته إلى الساحة القيادية والسياسية وهل وجوده يهدد مركز الرئيس محمود عباس وما يتعلق بخلافته
ما حصل مع البرغوثي لم يكن مجرد مسألة تأخير أو عراقيل عادية بل واقع مرير يُظهر الوجه الحقيقي للسلطة الفلسطينية في رام الله من خلال تعاملها اللامبالي و الهامشي مع رموز النضال الوطني بينما العالم كله من الولايات المتحدة مرورًا بالدول الأوروبية وقطر ومصر وحتى النائبة البريطانية ” إيلي تشونز ” كانوا يضغطون للإفراج عنه بينما كانت بعض قيادات السلطة الفلسطينية وبتوجيهات عليا وجهود مشتركة تعمل في الكواليس لمنع إطلاق سراحه بسبب خوفها المتفاقم من خسارة مراكزها داخل حركة فتح
هنالك عدة مصادر موثوقة أكدت أن قيادات في السلطة الفلسطينية قامت باتصالات سرية مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي ( الشاباك ) وشخصيات عسكرية وسياسية إسرائيلية كما ضغطوا على بعض الوسطاء والدبلوماسيين لإقناعهم بعدم شمول البرغوثي في أي صفقة تبادل أسرى محتملة أو على الأقل نفيه إلى قطاع غزة او الى أي دولة عربية اخرى بعيدًا عن ساحة الضفة الغربية حتى لو كان ذلك على حساب مطالب الشعب الفلسطيني وأولوية تحرير الأسرى والملاحظ هنا أن موقف السلطة لم يكن مجرد تحفظ أو حذر سياسي بل خشية تامة من أن يشكل الإفراج عنه تهديداً مباشراً لمكانة الرئيس عباس وهو ما يعكس المخاوف الداخلية للسلطة من تصاعد شعبية البرغوثي بين الفلسطينيين في مختلف انتماءاتهم التنظيمية وفي مقدمتها حركة حماس
على الصعيد الدولي أبدت الولايات المتحدة وإسرائيل معارضة صريحة لإطلاق سراح البرغوثي وهو ما عكس توافقاً بين القوى الإقليمية والسلطة الفلسطينية التي يبدو أنها تتبنى نفس الموقف من دون إعلان رسمي وكأن مواقف الجميع انصبت في اتجاه منع الإفراج عنه والثابت ان هذا التخوف كان نابع من نتائج استطلاعات الرأي المتكررة التي أظهرت أن البرغوثي سيحقق فوزاً ساحقاً في حال إجراء انتخابات رئاسية مقبلة مقارنة بعباس البالغ من العمر 88 عامً وهو ما جعل بعض قيادات السلطة تتحرك بخوف شديد لمنع أي تحول سياسي محتمل قد يفضي إلى فقدان السيطرة على حركة فتح وكوادرها ومراكز القرار المركزي فيها
السلطة الفلسطينية من جانبها ظلت تصدر بيانات شبه دعائية وبلغة عاطفية تنفي فيها تدخلها المباشر أو طلبها الرسمي بعدم الإفراج عن البرغوثي وأن جميع جهودها منصبة على دعم الأسرى والعمل من أجل إطلاق سراحهم وهو ما اعتبره محللون سياسيون مجرد تصريحات إعلامية فضفاضة بينما الواقع السياسي والحراك الميداني يكشف عن محاولات حقيقية متعددة عرقلة خروج البرغوثي من السجن تحت ذرائع مختلفة واهية تتعلق بالأمن الداخلي واستقرار القيادة وتماسك بينيتها
العديد من التحليلات السياسية وتقييمات المراقبين اشارت إلى أن رجالات السلطة في الصف الاول كانوا يخشون الإفراج عن البرغوثي لان ذلك يعتبر تحدياً مباشراً لنفوذهم ومكانتهم داخل حركة فتح كما أن تصاعد شعبيته بين الفلسطينيين يشكل ضغطاً متواصلاً على القيادة الفلسطينية الحالية ويضعها أمام خطر فقدان السيطرة على الأجهزة الأمنية والمؤسسات الرسمية وهو ما يفسر معارضة بعض القيادات المتواصلة لأية صفقة تشمل البرغوثي حتى لو كانت بضغط من الوسطاء الاقليميين والدوليين
في السياق نفسه يتضح أن قضية البرغوثي تجاوزت كونها مجرد صفقة تبادل أسرى لتصبح صراعاً مكشوفا على المستقبل السياسي الفلسطيني والتحكم في مواقع القرار والسلطة ومصير الانتخابات القادمة والذي تبرز معه المخاوف الداخلية للقيادة الفلسطينية من امكانية وصول البرغوثي إلى الضفة الغربية بعد الإفراج عنه وهو الحلم المفزع للقيادة الفلسطينية واذرعها السياسية والعسكرية كما أشار عدة محللون إسرائيليون ونشطاء فلسطينيون في وسائل الإعلام المختلفة
السؤال الأساسي يتعلق بمدى قدرة السلطة الفلسطينية على التوفيق بين مصالحها الداخلية وضغوط الاحتلال الإسرائيلي والموقف الأمريكي وبين مطالب الشعب الفلسطيني بالعدالة والحرية للأسرى وهو ما يضعها أمام اختبار حقيقي لفحص شجاعتها السياسية وأمانتها تجاه قضية الفلسطينيين ومستقبلهم في ظل استمرار الانقسام وتنامي دور بعض الشخصيات الوطنية والقيادات الشعبية المستقلة مثل البرغوثي الذي اصبح يمثل الحرية والوحدة فيما تمثل سلطة رام الله العجز السياسي والتنسيق الأمني والخوف من ثورة الشعب
البرغوثي الذي يلقب بـ” مانديلا فلسطين ” شكل بمواقفه وصلابته وتضحياته بمسيرة النضالية رمزا راسخا للثوري الملتزم والوحدة المطلوبة والمقاومة المستمرة وان المشاركة في منع إطلاق سراحه يثبت من جديد أن السلطة نفسها أصبحت جزءًا من المشهد الفلسطيني المظلم الذي يعيق الحريات ويقوض حقوق المواطنين في لعبة خطيرة تتقاطع فيها مصالحها مع مصلحة الاحتلال في ظل حالة متصاعدة من الصراع السياسي الداخلي بين السلطة ولقوى الوطنية والشعبية وهو ما كشف تناقضات السلطة فيما تصرح به إعلامياً وما تمارسه واقعياً ما جعل من دورها محل التباس ونقد شديد حيث تبدو كأنها تراوغ بين الحفاظ على النفوذ وخوفها من فقدان السيطرة وبين حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة سيما وان تدخلها غير المباشر لمنع الإفراج عن البرغوثي بدى للجميع كخيانة تحت ستار الخوف السياسي غير المبرر
على الجانب الاخر ورغم كل التوقعات والتخوفات بقيت حركة حماس تصر على إدراج البرغوثي في أي صفقة تبادل للأسرى معتبرة ان إطلاق سراحه حق وواجب وطني وإنساني وأن قضيته ستظل مركزيةً في أي اتفاق مستقبلي لوقف إطلاق النار وتحقيق تسوية فلسطينية إسرائيلية شاملة وأن رفض السلطة التعاون مع جهود حماس ومصر وقطر في حينه للإفراج عنه اظهر فشل القيادة الفلسطينية الحالية في قراءة الواقع السياسي مقابل سعيها لتحقيق مصالح ضيقة على حساب الوحدة الوطنية والمصالح العليا للشعب الفلسطيني وعوضا ان أن تستثمر هذه الفرصة الثمينة لإعادة توحيد الصف الفلسطيني اختارت أن تحمي مكاسبها الشخصية والسياسية وتحصين قلعتها وتثبيت رجالاتها وهو ما يفسر سبب استمرار حالة الانقسام والصراعات الداخلية ضمن حركة فتح وبين الفصائل الفلسطينية المختلفة
المفاجأة غير المتوقعة بالمطلق اطلقها الرئيس الامريكي ترامب خلال مقابلة له قبل يومين مع مجلة “تايم” الامريكية أشار فيها الى ان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بات رجل مسن ومن غير المرجح أن يكون الشخص المناسب لقيادة غزة ما بعد الحرب وان أحد الخيارات المطروحة امامه دعوة إسرائيل للإفراج عن القيادي في حركة فتح مروان البرغوثي باعتباره الشخص المناسب لقيادة غزة ما بعد الحرب والقيادي الوحيدة القادر على توحيد توجهات الفلسطينيين خلف حل الدولتين واضاف انه سيتدخل شخصيا من اجل ذلك
في القراءة الدقيقة لتصريحات ترامب قد تكون مناورة سياسية تهدف إلى الضغط على الأطراف المعنية لتقديم تنازلات أو ربما تمهيدًا لخطوات مستقبلية في إطار خطة السلام الأمريكية والحقيقة المؤكدة انه من غير المرجح أن يفرج عن البرغوثي دون ضمانات أمريكية خاصة في ظل تنامي دور واشنطن البارز في الوساطة بين إسرائيل وحماس ومن المحتمل ايضا ان ينظر الى هذا الإفراج كخطوة أمريكية استراتيجية لتشكيل قيادة فلسطينية أكثر توافقًا مع مصالحها يكون فيها البرغوثي في المستقبل رهينة للضغوط الأمريكية والاسرائيلية ولهذا يبقى مصيره في الاسر رهين للتوازنات الإقليمية والدولية ومدى استعداد الأطراف المختلفة لتقديم تنازلات اكبر والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بصورة استفهامية ماذا سيفعل عباس وزمرته لو اصر الرئيس ترامب على اطلاق صراح البرغوثي وقدمه كوريث شرعي مقبول شعبيا لعرش السلطة الفلسطينية المهزوز
في النهاية : يمكننا القول ان عدم الافراج عن البرغوثي سيبقى يسلط الضوء على حقيقة مقلقة مفادها ان السلطة الفلسطينية أصبحت أكثر عقبة أمام قضايا وطموحات الفلسطينيين من الاحتلال نفسه وهي تستخدم نفوذها وسلطتها ومكانتها وعلاقاتها المشبوهة مع الاحتلال لمنع إطلاق سراح أحد أبرز رموز النضال الوطني بالرغم من كل الضغوط الدولية والإقليمية فقد السلطة ظلت مصرة على حماية مصالحه السياسية والمرحلية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة والعيش بأمن وسلام
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

